ما كاد ينتهي المؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة حتى أطلق وزير الخارجية النرويجي تصريحاً غامضاً قال فيه أن نصف المبلغ الذي تعهد به المانحون سيخصص لإعمار غزة. بجرة قلم اختفى مبلغ يزيد عن مليارين ونصف المليار دولار. هذا طبعاً لو صدق المانحون وأهل الكرم هذه المرة. اذ أن تعهدات هؤلاء في مؤتمر شرم الشيخ بعد حرب 2008 ذهب بعضها لميزانية السلطة في رام الله وفي معظمها أدراج الرياح ولم ير أهل غزة منها شيئاً يذكر. ولم يصل غزة الا بعض النوافل من الصدقات وقوافل أدوية من شعوب تحتاج للأدوية أكثر من غزة.
قبل تصريح الوزير النرويجي, تحدث الرئيس المصري في افتتاح المؤتمر وأوضح أن إعمار غزة مرهون “بتهدئة مستدامة وتسلم السلطة الفلسطينية لإدارة غزة”. وعاد الرئيس الفلسطيني عباس للحديث عن المصالحة وحماس بشكل يفرغ المصالحة من الكثير من مضمونها فقال: “ لاجديد في غزة.. وحماس ما تزال تسيطر على الوضع الميداني في القطاع” وأضاف أن لا حديث عن مصالحة حقيقية مع حماس قبل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.” كما واعترف الرئيس عباس بصراحته المعهودة والصادمة في كثير من الأحيان بأنه لا زال ينتظر معرفة آليات دفع المبلغ المتعهَد به, او نصفه كما قرر الوزير النرويجي.
إلى جانب ما سبق من تصريحات, قال رئيس الحكومة الفلسطيني (الذي لم ينتخبه أحد) أن حكومته تعمل مع المجتمع الدولي على تشكيل فرق خاصة (يبدو أقرب ألى المصطلحات العسكرية) لمراقبة وتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار. وأدلت إسرائيل بدلوها في في مزاد إعمار غزة عبر - ومن غيره- مسؤول أمني, فتحدث هذا عن اجراءات جديدة على المعابر مع غزة وتوسيعها وفتح مكاتب جديدة لمراقبة كل ما يدخل أو يخرج من غزة. هل بدأنا ندرك أين سيذهب النصف الآخر من تعهدات المانحين ؟! أو جزء كبير منه على الأقل؟ في تصريح ذي صلة ومثير “للقرف” أفاض وزير الخارجية الهولندي المشارك في مؤتمر القاهرة في الحديث عن مزايا وأهمية “السكانر” الذي نصبته إسرائيل على معبر كرم أبو سالم قبل عامين بتمويل دافعي الضرائب الهولنديين, لمراقبة ما يدخل وما يخرج من بضائع لغزة.
بدأت إذاً تتضح معالم “مشروع إعادة إعمار غزة”. وتأكدت مخاوف الكثير من الفلسطينيين بأنه لا يعدو عن كونه تدويل للحصار على غزة ومأسسته وشرعنته دولياً وبمشاركة عربية وفلسطينية فاعلة وبتمويل جله عربي. هو مشروع هدفه جلب غزة إلى بيت الطاعة الإسرائيلي, يتضمن في طياته القضاء على أي مشروع بديل عن التسوية كما تراها إسرائيل. فبعد الفشل العسكري الإسرائيلي في القضاء على الظاهرة النبيلة التي اجتمعت في غزة, وتشكلت عناصرها من صمود وتلاحم وتضحية, خاصة في الحرب الأخيرة, اضطر ما يسمى بالمجتمع الدولي إلى اعتماد خطة بديلة عن الوحشية الإسرائيلية, خطة ذات نفس أطول وأكثر دهاءاً, بعيدة عن النزق العسكري الإسرائيلي, خطة استبدلت الشعار الإسرائيلي “العربي الجيد هو العربي الميت” بشعار العربي الجيد هو العربي الذي يحتضر, فربطت أي حياة في غزة بأموال المانحين والأمن الإسرائيلي.
فصمود غزة في الحرب الأخيرة عليها لم يرعب ويهز أركان إسرائيل فحسب, بل أرعب العرب والغرب بشكل أكبر. فشل المراهنة على إحداث شرخ بين الشعب ومقاومته عبر الإيغال في القتل والتدمير أفقد إسرائيل وحلفاءها صوابهم, فاضطروا إلى العودة إلى مبادئ “موشيه ديان” وزير الحرب الإسرائيلي إبان هزيمة 67 وبعدها. فكان هو من طرح تسهيل حياة “السكان” وفي نفس الوقت ملاحقة وقتل المسلحين بدون رحمة في إطار إحكام السيطرة على قطاع غزة. فبشرنا حسين الشيخ مسؤول الارتباط في السلطة الفلسطينية بموافقة إسرائيل على منح خمسة آلاف تصريح لسكان غزة للعمل في في أراضيهم التي اقتلع منها آباؤهم وأجدادهم.. يا لها من بشرى ويا له من كرم إسرائيلي!!
إن نجاح خطة اخضاع غزة تحت مسمى إعادة إعمارها يعتمد بشكل كبير على إدراك فصائل المقاومة لعناصر وأهداف هذه الخطة ومدى استعدادها لمواجهتها مع عدم إغفال احتياجات القطاع المنكوب والتمسك بالأهداف الوطنية بالتحرر والعيش بكرامة. يعتمد بشكل كبير على ما ان كانت حماس فعلاً قد قررت المضي في نفق أوسلو المظلم الذي دخلته بمشاركتها في الانتخابات في عام 2006. ويعتمد أيضاً على مدى تساوق السلطة الفلسطينية مع الرغبات والشروط الإسرائيلية والدولية. الاحتمالات مفتوحة ولا ضمانة الا إصرار الشعب الفلسطيني بمجموعه على نيل حقوقه المشروعة التي لن يعجز عن ايجاد الوسائل والأدوات لاستردادها.
صحفي وكاتب فلسطيني
أمستردام
11/10/2014


