كشف نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن في محاضرة له الأسبوع الماضي في جامعة هارفرد أن حلفاء أميركا قد تورطوا أثناء سعيهم لإسقاط النظام السوري في مستنقعين: تسليح الجماعات الإرهابية، والتحريض على الحرب الطائفية. بايدن الذي اعتذر لحلفائه أكثر من مرة على "زلة اللسان" هذه، لم يقل لطلبة هارفرد لماذا لم تعمل الولايات المتحدة على ردع حلفائها.
صمت الإدارة الأميركية والنشاط المحموم لحلفائها في الشرق الاوسط لإسقاط النظام السوري بأي طريقة أو ثمن يستدعي التفكير في الأسباب التي أدت لذلك. مسار الثورات العربية لم يبدأ فيما يسمى دول الممانعة ولكن في دول الاعتدال العربي. خسارة هذا المحور لتونس أولاً، ومن ثم مصر خلق حالة من الذعر لدى ما تبقى من أطرافه خصوصاً وأن الثورات العربية قد امتدت بشكل واضح الى كل من اليمن والبحرين والاردن والمغرب. تعويض خسارة هذا المحور تحديداً للقاهرة والتي كان من المتوقع أن تقود هي محور الممانعة بعد ثورتها الظافرة، تطلب إعادة التوازن داخل العالم العربي بإسقاط النظام السوري. "الثورة" السورية لم تولد مسلحة أو طائفية، والأسباب التي دفعت السوريين للبدء في التظاهر والاحتجاج هي نفس الأسباب التي دفعت المصريين والتونسيين واليمنيين للتظاهر: الفقر والفساد والاستبداد، والرغبة في أن تسود دولهم أنظمة تحترم كرامتهم وحريتهم وتجعل من قضيتي التنمية والعدالة الاجتماعية محور اهتمامها الأول. لكن الثورة السورية وعلى عكس ما جرى في تونس ومصر سُلِحتْ وتم العمل على تطييفها منذ البداية. ليس من الصحيح الادعاء بأن المحتجين السوريين لجؤوا للسلاح بسبب قمع النظام السوري الدموي لهم. نظام بن علي في تونس قتل خلال شهر وبشكل عشوائي أكثر من 350 متظاهرا، ونظام مبارك قتل خلال أقل من ثلاثة أسابيع أكثر من ثمانمائة متظاهر، ولم يلجأ الثوار الى السلاح في البلدين على الرغم من أن المتظاهرين في مصر سيطروا على أكثر من 13 الف قطعة سلاح بعد قيامهم بإضرام النار في 99 مركز شرطة، وعلى الرغم من توفر السلاح في المناطق الداخلية التونسية.
وليس حقيقة ما يقال بأن بداية الحركة الاحتجاجية في منطقة فلاحية وعشائرية وهي درعا كان السبب في لجوئها للسلاح. الثورة التونسية ولدت في مناطق فلاحية وعشائرية، وأهل القصرين وسيدي بوزيد لهم تاريخ عريق في المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي. لكنهم لم يلجؤوا للسلاح بعد قيام البوليس التونسي بقتل أكثر من عشرين متظاهرا في القصرين وتالة والرقاب بين الثامن والعاشر من كانون الثاني العام 2011. "الثورة" السورية سُلِحت حتى لا يُعطى النظام السوري فرصة للتوصل الى تفاهمات مع الثوار، وطُيفت حتى تصبح مغناطيسا جاذبا لكل "المجانين" الذين يعتقدون أن قتال الشيعة هو انتصار لجوهر الإسلام الصحيح وأن محور الصراع "الحقيقي" في الشرق الأوسط هو بين السنة والشيعة.
لم يقم حلفاء الولايات المتحدة العرب بفعلي التسليح والتطييف بدون تفكير أو حسابات. كان المشهد الليبي حاضرا في أذهانهم. صراع مسلح بين النظام السوري وخصومة، يتبعه قرار من مجلس الامن بالتدخل لحماية المدنيين السوريين، خلاله يتم إسقاط النظام بالقوة المسلحة الخارجية. لم يرغب حلفاء أميركا العرب بالانتظار حتى تتحول الحركة الاحتجاجية في درعا الى ثورة شعبية عارمة. لم يكترثوا بكونها حركة احتجاجية "طرفية" وبأنها تصبح ثورة شاملة فقط عندما تصل الى حلب ودمشق. أرادوها "ثورة" بالإكراه عبر التمويل والتسليح لأن المهم بالنسبة لهم كما قال بايدن: أن يسقط النظام. هم أصلاً يكرهون فكرة "ثوره" ويعادونها كما فعلوا في مصر وتونس، لكن "الثورة" التي تستطيع إسقاط النظام السوري محببة الى قلوبهم.
لم تكن حسابات حلفاء أميركا العرب والأتراك واقعية كما يبدو. تجربة أميركا في العراق علمتها أن التدخل الخارجي قد يؤدي لنتائج عكسية إن لم تكن هنالك قوة محلية حقيقية قادرة على استلام وإدارة الحكم بعد تدخلها. بخلاف ذلك، تدخلها يؤدي الى تورطها هي في الصراع لمدة طويلة والى استنزاف لمواردها كما حدث في العراق. ولم تكن الحسابات دقيقة لأن سورية بالنسبة للروس هي آخر ما تبقى لهم في العالم العربي ولم يكونوا على استعداد لتمرير قرارات في مجلس الأمن تعطي الأميركيين العرب فرصة استخدام القانون الدولي لإسقاط النظام السوري. والحسابات أخطأت أيضاً، لأن مساهمة أميركا في إسقاط النظام الليبي تمت من باب تأييد الموقفين الفرنسي والبريطاني وليس بسبب وجود مصلحة مباشرة لها في إسقاط القذافي.
ما قاله بايدن على أي حال ليس بمعلومة جديدة. يروي المعارض السوري محمد جمال باروت أن تسليح الثورة السورية قد بدأ مبكراً جداً ومع انطلاقتها تقريباً في درعا في منتصف آذار العام 2011. يقول باروت بأن بعض رجال الأعمال السوريين في الخارج ممن انتزعت ممتلكاتهم لحساب رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري، قد أدخلوا السلاح الى سورية عن طريق عناصر مُحترفة ومُخترقة لتيار حزب المستقبل في لبنان.
ويمكننا أن نربط بين "المستقبل" وعلاقاته الخارجية. ويروي أيضاً، أن اتفاقات النظام السوري مع أهالي درعا كان يجري دائما إسقاطها إما من قبل متشددين من داخل النظام لم يرغبوا بتقديم تنازلات للمحتجين أو من قبل عناصر جرى تمويلها وتسليحها من الخارج. ويضيف باروت أيضاً أن "الحمى" الطائفية لم يكن مصدرها النظام السوري، ولكن جماعات المعارضة الخارجية التي بدأت تبث سموم الطائفية لنشر الإحتجاجات وتجذريها مستخدمة في ذلك محطات التلفزة الخليجية. رواية باروت لتسلسل الاحداث في سورية تكشف وجود تيار داخل النظام السوري لم يكن راغباً في تسوية سلمية لأحداث درعا، وتكشف في الوقت نفسه رغبة خارجية عربية في الأساس بتوسيع هذه الاحتجاجات بأي ثمن بما في ذلك تسليح "الثوار"، تمويل الجماعات المعارضة للنظام أياً كانت الأفكار التي تحملها، و"النفخ في بالون" الصراع المذهبي لتفجيره.
اليوم تقف "داعش" أو بالأصح تفرعات "القاعدة" العديدة على مشارف تركيا والأردن والسعودية وهي تسيطر على أكثر من نصف سورية والعراق وتخوض حروبها أو قل جرائمها على جبهات لا حصر لها. النظام السوري آثم لفساده واستبداده، ولكنه بالتأكيد ليس السبب الرئيس للكوارث التي لحقت ببلده. على الأقل هذا ما أكده بايدن في زلة لسانه.


