يتزايد الإحساس لدى كثير من أفراد الشعب الفلسطيني بالوحدة، ليس فقط، من حيث أنهم لا يشعرون بتضامن أو بمؤازرة إخوانهم من العرب والمسلمين، لا في حرب المواجهة مع إسرائيل ولا في مقارعتها، لا ميدانيا ولا عبر المؤسسات الدولية، ولو كان الأمر كذلك، لفعلت أكثر من دولة عربية / مسلمة لفلسطين، نصف ما فعلته ضد " داعش " في العراق وسورية، ولكن أيضا يتزايد إحساس الشعب بافتقاده قيادته الوطنية، التي يبدو أنها إما مشغولة بالمعارك السياسية في الخارج، أو بالمناكفات والصراعات فيما بينها. خاصة في غزة، مر عيد الأضحى، وكأن غزة معزولة عن الدنيا، أو كأنها في كوكب آخر، تجري الأمور في المحيط العربي والإسلامي، كالمعتاد، وكأن كل شيء على خير ما يرام.
شعرت غزة، كما لو أنها كانت طفلا صغيرا يتيما، لم تجد أبا، عما أو خالا يدخل بهجة العيد إلى قلبه، وباستثناء الشعائر الدينية، خاصة ما يتعلق بالأضحية، ومن ثم صلة الرحم، لما انتبه كثير من الناس، إلى أن هذا اليوم، إنما هو يوم عيد. بالطبع، كان هذا العيد أقل شحوبا من ذاك الذي سبقه، والذي جاء في عز الحرب والقصف والقتل، لكنه أيضا، يجيء مع تلكؤ، أو على الأقل مع بطء قدوم الفرج الذي تنتظره الناس، فقد بدأ العام الدراسي، وما زالت بعض العائلات تقيم في بعض مدارس ( الأونروا )، وفي ظل فقر شديد، لم يستطع الكثير من الآباء توفير احتياجات العام الدراسي لأبنائهم، وها هو مطلع فصل الشتاء يطرق الأبواب، وما زالت آلاف العائلات في العراء.
الوضع ضاغط على الجميع، ولا يمكن مواجهته إلا بتكاتف وتلاحم الجميع، وهناك برأينا ضلع من مثلث السياسة مفقود، فإذا كانت القيادة السياسية المخضرمة، تتقن مقارعة إسرائيل على طاولات التفاوض، وفي أروقة المنظمات الدولية، وعلى الصعيدين السياسي والدبلوماسي، وإذا كانت المعارضة تتقن متابعة السلطة والقيادة والتصدي لأية هنات أو ما تظنه تنازلات، كما أنها تتقن العمل العسكري أو ما تسميه برنامج المقاومة مقابل برنامج التفاوض، فان العمل المجتمعي، التضامني، العمل الميداني، التطوعي، أي العمل الشعبي بات ضلعا ناقصا، أو ضلعا قاصرا، بعد أن " ترهلت " القيادات الفلسطينية، على الجانبين، وأول وأهم ما يريده الشعب الفلسطيني الآن، الانخراط بين صفوفه، وتحسس همومه، والجلوس على " حصيرته " والأكل مما يأكل والشرب مما يشرب، وصولا إلى اللبس مما يلبس والسكن حيث يسكن. يمكن لقيادات ترتدي الملابس الرسمية، " والبذلات المنشاة والمكوية " بغض النظر، إن كانت مع ربطة العنق أم بدونها، أن تخلعها، ولو لأيام، لترفع أولا من معنويات الناس، وتشد من أزرهم، بعد محنة تهد الجبال، كانوا قد تعرضوا لها لتوهم، هنا يمكننا القول بأنه أخيرا، خيرا تفعل حكومة التوافق بعقد جلستها الأسبوعية، في غزة، ولكن برأينا، هذا لا يكفي، أي انه لا يكفي مجرد الشكل التضامني، لابد أن يذهب كل وزير مع أركان وزارته إلى أنحاء القطاع، ويقف ميدانيا عند حدود ما يمكنه فعله فورا هو ووزارته من اجل مواجهة آثار ونتائج الحرب، ومن أجل البدء في إعادة الإعمار، وإعادة الإعمار بالمناسبة لا تبدأ ولا تقتصر على إعمار المباني التي تهدمت وحسب، بل بمعاجلة النفوس أولا، ومن ثم اجتراح معجزات الترميم، فلا يمكن لشعب يصارع من اجل البقاء أن يظل ينتظر عطف الآخرين عليه، ولا يفكر أولا هو في أن يفعل شيئا فورا. يمكن لنا _ وحدنا _ أن نفعل الكثير، يمكننا أن نتعامل مع غزة باعتبارها أرضا منكوبة، ويمكننا أن نتعامل معها كظرف استثنائي، يمكننا أن نستذكر ما فعله عمر بن الخطاب في عام الرمادة، حين أوقف العمل بحد قطع يد السارق _ كان أبي يرحمه الله يقول: ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع _ وكان يمكننا _ مثلا _ أن نصدر قانونا يتم بموجبه تحويل ثمن الأضحية وهي سنّة وليس فرضا، إلى ملف إعادة إعمار غزة، حيث تشير التقديرات إلى أن الضفة الغربية صرفت نحو 60 مليون دولار ثمنا للأضاحي، فإذا قدرنا أن غزة والـ 48 والشتات الفلسطيني صرفوا مبالغ مقاربة، فيمكن بذلك أن يصل الرقم إلى 200 مليون دولار، وهذا يعني انه كان يمكن تغطية أصحاب عشرة آلاف منزل مدمر بمعدل 20 ألف دولار، لو كان هناك، الآن، عدم قدرة على توفير مواد البناء، فيمكن دفعها لأصحاب المنازل المدمرة. ويمكن لنا أن نتمثل قول عمر أيضا _ لو أن شاة في العراق نفقت لسئل عنها عمر _ ويمكن لنا أيضا أن نستذكر ما كانت "م ت ف" قد فعلته قبل عقود حين فرضت 5% على الفلسطينيين العاملين بالخليج وكان هذا احد عوامل تثبيت القرار المستقل.
الآن لابد من فرض مشاركة رجال الأعمال الفلسطينيين في المهجر والشتات في الإعمار، هؤلاء الذين يعلنون ليل نهار وقوفهم مع غزة، عليهم أن يقرنوا الأقوال بالأفعال، ويمكن لنا أيضا وأيضا أن نستذكر كيف أعادت اليابان وألمانيا بناء نفسها بعد الحرب، اعتمادا على ذاتها أولا. كما انه علينا دائما أن نفكر وفق منطق المثل الصيني " أن تعلمه الصيد خير من أن تعطيه كل يوم سمكة" ، والذي كان وراء تحقق الصين الآن كدولة عظمى اقتصاديا في العالم. لنتعلم من أم ياسر العجلة، التي أحبها أهل حارتها، لدرجة أنهم شبّهوها بأم جوزيف باب الحارة، ولتبدأ الحكومة بإطلاق برامج إعادة الإعمار والترميم، بإقرار برامج فورية من شأنها أيضا أن تشغّل عددا من الشباب، فمن يعمل أحق بالراتب ممن لا يعمل، ومن يعمل ميدانيا، ووفق برامج إعادة الإعمار والترميم أحق بالراتب ممن يعمل على الطاولات والمكاتب، وإذا كانت القيادة السياسية قد رفعت شعارا صائبا، وهو لا دولة في غزة ولا دولة دون غزة، فعليها أن تدرك وبعمق أن غزة رافعة المشروع الوطني، وان انتزاع الدولة من بين أنياب إسرائيل لا يكون إلا بتوحيد وتعضيد، تحصين وتقوية الذات، وان غزة المحررة من الاحتلال، صار دورها هو أن تكون " هانوي " دولة فلسطين المستقلة، وان هانوي فلسطين، تختلف قليلا عن هانوي فيتنام، فهي لن تكتفي بأن تعد لهم ما استطاعت من قوة عسكرية وحسب، ولكن من قوة اقتصادية وسياسية، ومن قوة نموذج، تحرر فلسطين أولا من حاجتها للمعونة المالية من الآخرين، وحين يصير بمقدورنا أن ندفع رواتب موظفينا من جيبنا، من إيراداتنا الخاصة، سنفرض ما نريد عليهم، وسنطرد آخر جندي وآخر مستوطن من أرض دولة فلسطين في ثلاثة أيام وليس في ثلاث سنين.
Rajab22@hotmail.com


