خبر : ماذا حدث لمصر! ...بقلم: جلال أمين

الإثنين 06 أكتوبر 2014 08:16 م / بتوقيت القدس +2GMT





منذ مايقرب من ستين عاما، فاجأت مصر العالم، بل فاجأت نفسها، بعمل عظيم، حولها بين يوم وليلة، من دولة صغيرة إلى دولة قائدة من قادة العالم الثالث، ومن دولة متميزة من بين مجموعة الدول العربية إلى زعيمة للأمة العربية.

كان قيام مصر بتأميم قناة السويس فى 26 يوليو 1956 عملا شجاعا سرعان ما اتخذ من جانب دول العالم الثالث رمزا لرفض التبعية للعالم الصناعى الرأسمالي، والتنمية الصناعية السريعة، واللحاق بالعالم المتقدم صناعيا وتكنولوجيا، وإنهاء عهد طويل من الظلم الاجتماعي، كما اعتبرته بقية الدول العربية بداية لتوحيد صفوف العرب فى جهد مشترك لتحقيق الذات والإسهام الايجابى فى الحضارة الانسانية.

لم تشهد مصر فقط حدثا مدهشا بتأميم قناة السويس فى 1956، بل شهدت أيضا عقدا مدهشا تاليا على هذا الحدث، إذ فاجأت مصر نفسها أيضا، وفاجأت العرب والعالم، وخلال السنوات العشر الفاصلة بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات، بسلسلة من الانجازات الرائعة فى ميادين مهمة: فى التنمية الاقتصادية، إذ دشنت ثورة صناعية صغيرة، وبدأت وأتمت بناء السد العالي، وتبنت نظاما ناجحا فى التخطيط الاقتصادى والاجتماعي، وأحرزت تقدما ملموسا فى تضييق الفجوة بين الطبقات، وفى الارتفاع بمستوى إشباع الحاجات الأساسية من السلع الغذائية والمسكن والتعليم والصحة، وتوسعت فى إرسال البعثات العلمية للخارج، واستخدام الخبرة الأجنبية اللازمة لتحقيق التقدم الصناعى واستصلاح الأراضى والارتفاع بالقدرة العسكرية، كما ترسخت زعامتها للعالم العربي، بما قدمته من إسهامات ناجحة لتحرير البلاد العربية التى لم تكن قد تحررت بعد من الاستعمار، خاصة فى الجزائر وعدن، وفى تدعيم التعاون الاقتصادى والثقافى العربي.

وصنعت الهزيمة العسكرية فى 1967 نهاية محزنة لهذه الانجازات المدهشة، كان الهجوم الإسرائيلى فى 5 يونيو 1967 على ثلاث دول عربية، الذى كان مدعوما عسكريا وسياسيا وماليا، من أقوى دولة فى العالم، عدوانا صارخا يستهدف وضع حد لتجربة نبيلة تحاول فيها دولة صغيرة ممارسة حرية الارادة، وتحقيق نهضة شاملة. ولكن هذه الهزيمة العسكرية كانت ناتجة أيضا عن قصور فهم فى هذه التجربة نفسها، وأخطاء داخلية تتعلق أساسا بالفشل فى إقامة نظام ديمقراطى يطلق كل الطاقات الكامنة فى شعب طموح وذكي، أحاطت بطموحاته للأسف مطامع خارجية أنانية فى الاستغلال والقهر، وتطلعات داخلية فردية للتسلط.

كانت النتيجة المحزنة ما لايقل عن أربعة عقود من التقهقر أو الشلل فى مختلف ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إذ بينما حلت محل الدولة الملتزمة بمشروع نهضوى وطني، دولة «رخوة»، إزاء أعداء النهضة فى الخارج والداخل، استمر السكان فى مصر يزيدون بمعدل مرتفع لا يسايره معدل الزيادة فى الاستثمار والموارد الاقتصادية المتاحة، وهكذا لم يزد متوسط الدخل الحقيقى فى مصر، خلال هذه العقود الأربعة (1967 ـ 2010) مأخوذة ككل، إلا زيادة طفيفة، وازدادت نسبة العاجزين عن اشباع حاجاتهم الضرورية، وتدهورت حالة البيئة فى المدن والقرى على السواء.

وفى ظل توزيع مختل للقوة السياسية زاد أيضا اختلال توزيع الثروة والدخل، وانتشرت صور الفساد فى مختلف مراتب الحياة الاجتماعية والسياسية، شهدت مصر أيضا فى هذه العقود الأربعة، نظاما سياسيا يدعى الديمقراطية وهو قائم فى الحقيقة على تركز شديد للسلطة، إلى حد محاولة توريث رئاسة الجمهوية من الأب لابنه، وخلال ذلك كله أبدى الممسكون بالسلطة تهاونا مخزيا إزاء استهتار القوى الخارجية بالسيادة المصرية، وبإرادة المصريين وكرامتهم، مما ترتب عليه انهيار مركز مصر فى العالم العربى والعالم الثالث، وشجع بعض الدول الإفريقية على تعريض مصر لخطر يتعلق بمورد أساسى من موارد الحياة فى مصر وهو نهر النيل، كما فقدت مصر مكانتها الرائدة لحركة نهضوية فى المنطقة العربية، ولحركات المقاومة فى بقية العالم الثالث، ضد ما تمارسه القوى الكبرى من قهر واستغلال.

فى ظل دولة هشة وعاجزة، كالتى شهدتها مصر خلال العقود الأربعة الماضية، بدت مصر كالريشة فى مهب الريح، يعبث بها تطور الأحداث فى المنطقة العربية وفى العالم، دون أن تبدى أى قدرة على الافادة من أى تطور إيجابى وتعظيم أثره، ولا على مقاومة أى تطور سلبى لتحمى الشعب منه، فحتى الانجاز العسكرى الرائع الذى حققه المصريون بعبور قناة السويس فى 1973، لم تستطع السلطة السياسية استغلاله لتحقيق الآمال السياسية والعسكرية التى عقدها المصريون على الانجاز العسكري، بل قنعت السلطة السياسية بعقد اتفاقيات متتالية مع العدو، ومهيمنة سياسيا وعسكريا، انتهت بزيادة عزل مصر عن بقية العرب، أما ارتفاع أسعار البترول الذى حدث عقب حرب أكتوبر 1973، وترتبت عليه هجرة واسعة النطاق إلى مختلف البلاد الغربية من جانب المصريين الذين عجزت السلطة المصرية عن توفير فرص عمل مجزية لهم، فلم تحاول أيضا الدولة المصرية استغلاله بايجاد فرص مجزية للاستثمار أمام مدخرات المصريين العاملين بالخارج، مما يسهم فى تحقيق نهضة صناعية وزراعية داخل مصر، بل فتحت أبواب الاستهلاك البزخى والمظهرى أمام المصريين، وسمح لوسائل الاعلام بإثارة تطلعات استهلاكية جديدة لم يفر منها إلا مصدرو السلع الاستهلاكية الأجنبية ووكلاؤهم فى مصر.

ترتب على ذلك تطورات اجتماعية خطيرة، فبالإضافة إلى زيادة الفهم الاستهلاكي، وارتفاع معدل التضخم بلا ضابط، زادت حدة الازدواجية فى المجتمع المصرى التى ارتبطت باتساع الفجوة بين الثروات والدخول فزدات الازدواجية فى مختلف مظاهر السلوك وأنماط الحياة، بما فى ذلك أنماط التعليم نفسه، ولغة التخاطب، وقد فجر هذا النمو فى الازدواجية الاجتماعية ظاهرة مخيفة لم تشهد مصر مثلها لعهود طويلة، وهى ظاهرة التطرف الديني، التى اقترنت بعدوانية غير مسبوقة إزاء أصحاب الأديان المغايرة، وانتشر هذا التطرف وهذه العدوانية، فى الشارع المصري، وفى المدارس والجامعات، وفى وسائل الإعلام، مما أوجد حالة مفزعة من الاحباط واليأس لدى الأقباط، دفعت الكثيرين منهم إلى الهجرة، وإضعاف رغبتهم فى تقديم إسهام ايجابى فى النهوض بالوطن.

لم يكن غريبا أن يقترن هذا بتدهور شديد فى طبيعة الخطاب الدينى السائد، وأن تظهر، وتكثر أمثلة مذهلة فى درجة لا عقلانيتها فى تفسير الدين، سواء المتعلقة بتغليب المظهر على الجوهر، والاهتمام بالسلوك الخارجى دون ما يجرى فى داخل الذهن والقلب، أو تفضيل انسحاب المرأة من الحياة الاجتماعية، أو الدعوة إلى تقليد عادات قد تكون قد عرفت فى فترات سابقة من تاريخ المصريين والمسلمين، ولكنها لم تعد ملائمة للعالم المعاصر، فضلا عن انعدام الصلة بينها وبين مبادئ الدين وأهدافه.

أدى النمو فى قوة هذه الحركات المتطرفة والدعوات اللاعقلانية، والمنافية للحاجات الطبيعية للانسان، ولمتطلبات الحياة فى العالم المعاصر، إلى نمو شعور ثقيل بالاغتراب لدى شرائح واسعة من المصريين، مما زاد من قوة شعورهم بالاحباط والاحجام عن المشاركة فى أى جهد مطلوب لنهضة وطنهم، بل دفع أعدادا كبيرة منهم للهجرة إلى الخارج.

كان كل هذا يحدث فى مصر بينما يرى المصريون دولا أخرى كانت حتى وقت قريب أقل تقدما من مصر فى مستوى المعيشة ومتوسط الدخل وفى حالة التعليم(كالصين والهند) تحرز خلال هذه الأربعين عاما قفزات هائلة نحو الأخذ بأساليب الحياة الحديثة والتقدم فى العلم والمعرفة والتنمية وتحسين نوعية الحياة، كما رأى المصريون بلادا إسلامية كانت أحوالها الاقتصادية والاجتماعية مثل حالهم منذ أربعين عاما، فحققت تقدما رائعا فى مختلف المجالات، دون التنكر لتراثها الحضارى والدينى (كماليزيا وتركيا) فأثبتت أن من الممكن الجمع بين الأخذ بأساليب التقدم ومتطلبات الدولة العصرية، وبين الاحترام الواجب لتراث الأمة. كان هذا هو حال مصر عندما قام المصريون بثورة فى 25 يناير 2011 فما الذى حدث منذ ذلك الوقت؟

عن الاهرام