أظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة أول من أمس أن الحكومة التي يقودها لها أجندات لا علاقة لها إطلاقاً بالعملية السياسية وحتى مجرد التفكير في إيجاد حل، أي حل، للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فهي تريد إبقاء الوضع الراهن على حاله وكسب الوقت ما أمكن حتى تفرض إسرائيل المزيد من الحقائق على الأرض بصورة لا تتيح في المستقبل القريب أو البعيد إمكانية إنجاز حل الدولتين، مستغلة في ذلك انشغال العالم والدول العربية بمشكلات وهموم لا علاقة لها بملف الصراع بصورة مباشرة.
نتنياهو بذل جهداً كبيراً في خطابه للربط بين التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وبين ما تقوم إسرائيل في مواجهة فصائل المقاومة في غزة وبالذات بين "داعش" وحركة "حماس" وبالتالي الربط بين الرئيس محمود عباس الذي شكل حكومة توافق مع "حماس" وبين الإرهاب والتطرف الإسلامي، اي أن نتنياهو الذي حاول الرد على خطاب الرئيس أبو مازن يريد أن يتهم أبو مازن بالتطرف ليس فقط في أقواله التي وردت ضد جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في غزة والتي حظيت برد فعل غاضب ومستنكر من إسرائيليين كثيرين ساسة وإعلاميين، وإنما في توجه السلطة نحو المصالحة مع "حماس"، مع العلم أن إسرائيل كانت طوال الوقت تتهم القيادة بأنها لا تسيطر على غزة وهذا مبرر لعدم القدرة على تطبيق أي اتفاق معها، ومبرر بالتالي لعدم التوصل لاتفاق أصلاً. وغضب نتنياهو كما ورد في خطابه كان ايضاً على المجتمع الدولي الذي أدان جرائم إسرائيل ولم يدن "حماس" التي أطلقت الصواريخ على التجمعات المدنية. وحظي مجلس حقوق الإنسان باستنكار إسرائيلي لقراره تشكيل لجنة للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. ولكن هذا الجزء من خطاب نتنياهو، الذي يدافع فيه عن إسرائيل الديمقراطية الأخلاقية على عكس خصومها الإرهابيين المجرمين الذين لا يقتصرون على "حماس" وأبو مازن بل كان لإيران التي تسعي لامتلاك القدرات النووية نصيب لا بأس به، ليس هو المهم في كلمته، بل إن الأهم هو ما تحدث به عن رؤيته السياسية لحل الصراع.
رؤية نتنياهو الجديدة تقول إنه وبعد أن جربت إسرائيل الانسحاب من مناطق في لبنان وغزة تلقت جيشين ارهابيين على حدودها، لا يمكنها أن تنسحب من جديد لأنه في ظل الفوضى التي تعم المنطقة فإن من سيملأ الفراغ هم الإسلاميون المتطرفون. وهذا سبب كاف من وجهة نظره لتغيير الإستراتيجية الإسرائيلية في العملية السياسية، بحيث يتم إنهاء التفكير بأي حل يطلب فيه من إسرائيل التنازل عن أراضٍ للفلسطينيين بحجة أن إسرائيل دولة صغيرة ولا يمكنها الدفاع عن نفسها في وجه الإرهاب إذا تخلت عن الضفة الغربية على سبيل المثال. وبدلاً من هذه الطريقة العقيمة في البحث عن تسوية لماذا لا تعتمد إسرائيل طريقاً آخر يعكس العملية. فإذا كانت المبادرة العربية للسلام تتحدث عن انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194 كشرط لقيام الدول العربية ومن خلفها الدول الإسلامية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، فلماذا لا تبدأ العملية أولاً بتطبيع العلاقات والتعاون بل التحالف العربي- الإسرائيلي الذي يضم دولاً كالسعودية والإمارات ومصر والأردن الذي يعكس المصالح المشتركة في مواجهة الإرهاب الإسلامي، وبعد أن تستتب الأمور يمكن أن يساهم هذا في التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين.
هذه وجهة نظر واضحة جداً ولا تحتاج إلى أي جهد في التحليل. يجب ألا يتعب الفلسطينيون أنفسهم بالبحث عن تسوية مع إسرائيل لأنه لا توجد أدنى نية أو رغبة إسرائيلية في طرح أو القبول بأي موقف له علاقة بمرجعيات عملية السلام التي قامت عليها اتفاقات "أوسلو" والمفاوضات التي استمرت منذ 22 عاماً. بل أنها تقول أن الاستنتاج الذي توصل إليه الفلسطينيون وخاصة بعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة التي قادها وزير الخارجية الأميركي جون كيري والتي استمرت حوالي 9 شهور ولم تؤد إلى أي صيغة تفاهم حول أي قضية صغيرة إجرائية كانت أم كبيرة، والذي يقول أنه لا يوجد شريك إسرائيلي يمكن التفاوض معه صحيح للغاية.
بذلك يسدل نتنياهو الستار نهائياً على مفاوضات عقيمة امتدت طويلاً وأضاعت وقتاً ثميناُ منح إسرائيل الفرصة في مضاعفة الاستيطان وعمليات تهويد المناطق الفلسطينية وفي مقدمتها القدس المحتلة. والآن لا بد من التوجه نحو المجتمع الدولي ليقول كلمته، فكما يتجند العالم لمحاربة ظواهر إرهابية خلقتها دول عظمى بحجة تهديد السلم والأمن الدوليين فعليه أن يقوم بجهد مواز للتخلص من الاحتلال الذي لا يقل خطورة عن أية ظاهرة إرهابية. فهو مصدر التوتر وسبب عدم الاستقرار وهو الذي يقود للحروب وتهديد الأمن الإقليمي والدولي.
ولا يوجد مبرر للتغطية على احتلال بهذه البربرية والصلف حتى لو كان يصف نفسه بالحضارية والديمقراطية. فالاحتلال هو قمة الإرهاب وأي رد فعل عليه حتى لو صنف إرهابياً لا يمكن أن يساويه. والخيارات الفلسطينية التي تم التحدث عنها وخاصة اللجوء إلى مجلس الأمن والجمعية العمومية والمنظمات الدولية الأخرى بما فيها المحاكم هي في مكانها، وعززها خطاب نتنياهو الذي أكد استحالة التسوية مع حكومة إسرائيل بدون ضغط دولي كبير وهائل وبدون معاقبة إسرائيل على استمرار احتلالها ولتغضب واشنطن كما تشاء، فالكرة كانت في ملعبها وتآكلت من كثرة الانتظار. ونحن بحاجة لاستراتيجية كفاحية واضحة ومتكاملة ومفصلة لخطواتنا تأخذ بالاعتبار مجمل التطورات والظروف الإقليمية والدولية، ولا نملك ترف إضاعة المزيد من الوقت.


