خطاب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أمام الجمعية العمومية لهيئة الامم المتحدة (26 سبتمبر) كان خطاباً حاداً ومستفزاً، بل ويدعو إلى اليأس، ولكن وأكثر من أي أمر آخر، ففي حديث الزعيم الفلسطيني الذي وقف بالقرب من مهد اتفاقية أوسلو تسمع أصوات تكسر الأدوات المقلقة؛ عبارة "لن ننسى ولن نسامح" التي قالها وقصد بها العمليات الاسرائيلية في غزة بمثابة صافرة إنذار تسبق هزة أرضية.
أبو مازن ليس مراهقاً سياسياً، يمكن الافتراض انه علم ان اتهام اسرائيل بقتل شعب يصب الزيت على عظام نتنياهو، والذي وصف خطابه بأنه تحريضي، والتفكير الصحيح يقول ان الزعيم الفلسطيني أخذ بعين الاعتبار أن خطابه سيمد وزير الخارجية ليبرمان بالذخيرة، وهو الذي سارع بالإعلان عن القيادة الفلسطينية كلها كـ "متمردة"، الدبلوماسي الفلسطيني المخضرم لم يتفاجأ طبعاً من التوبيخ العلني الذي تلقاه من المتحدثة باسم الخارجية الامريكية، والتي زعمت ان خطابه لا يسهم في تقدم مفاوضات السلام بين اسرائيل والفلسطينيين.
المشكلة المركزية، أولاً وقبل كل شيء، لكل اسرائيلي ولكل من يحب الطابع اليهودي والديمقراطي لدولة إسرائيل؛ هي أن القائد الفلسطيني لا يكترث لما سيقوله القادة في القدس أو ما يقوله عنه الأمريكيون، مصدر إسرائيلي زار الأسبوع الماضي (نهاية سبتمبر) المقاطعة في رام الله، لم يفاجئه محتوى خطاب الرئيس الفلسطيني ولا النبرة الصعبة في حديثه، ففي جلسة مغلقة مع عباس ومساعديه المقربين تأثر الضيف، وهو الذي يجري اتصالاً متواصلاً مع قيادة السلطة الذين فقدوا بقية الأمل بأن تقرب المفاوضات مع نتنياهو الفلسطينيين من حل الدولتين على أساس حدود الـ 67.
عباس أيضاً لا يوهم نفسه بأن يدعم قراراً لمجلس الأمن للاعتراف بالدولة الفلسطينية عشية انتخابات الكونغرس في الرابع من نوفمبر؛ الأمر الذي سيجعل من اسرائيل الدولة التي تحتل أراضي دولة أخرى عضوة في الأمم المتحدة، وبدلاً من استغلال ضعف حماس التي تلعق جراحها إثر "الجرف الصامد" بهدف تقوية موقف السلطة الفلسطينية فقد أهانت إسرائيل السلطة الفلسطينية بضم حوالي 4000 دونم على مشارف بيت لحم، القيادة الفلسطينية في رام الله خاب أملها أيضاً من معسكر السلام الاسرائيلي المتعثر بقيادة تسيبي ليفني ويتسحاق هرتسوغ، وإلى حين إعلان جديد – من غير الواضح متى أو إذا جاء أصلاً – ننصح بمحو المصطلح الأجوف "عملية السلام" من القاموس السياسي وإفساح المكان للمصطلح المثير للقلق "مسيرة المواجهة".
هذه المسيرة، وهذا ما يعود ويؤكده عباس، في آذان الاسرائيليين والأوروبيين الذين التقاهم، المصدر الاسرائيلي من المتوقع البدء بتقديم شكوى في المحكمة الجنائية الدولية بحق دولة اسرائيل ومسؤولين في المستويين السياسي والعسكري، وبحق البناء في المستوطنات والمس بحقوق الانسان والممتلكات الفلسطينية، ويفترض الفلسطينيون أن اسرائيل سترد بقوة على هذه التوجهات من نوع تلك التي اتخذت عندما أقام الفلسطينيون حكومة التوافق الوطني، المرحلة القادمة في مسيرة المواجهة المخطط لها في رام الله هي تقليص الاتصالات بين السلطة واسرائيل وخفض مستوى التعاون الأمني معها.
أجهزة السلطة التي توفر الكثير من أماكن العمل، والتي تستخدم كمغناطيس لأموال الدول المانحة ستتواصل، هذا رغم ما اتفق عليه في الأسبوع الماضي مع قيادة حماس بأن تقوم السلطة بدفع رواتب رجال حماس المتواجدين في مكاتب الحكومة في غزة.
ووفقاً لمعلومات وصلت "المونيتور" فإن قائداً اسرائيلياً كبيراً مشاركاً في "الجرف الصامد" حذر رجال الأمن نتنياهو من أن مواصلة منع تدفق أموال الرواتب الى غزة هي وصفة لانفجار ضخم، ونفس العناصر تحذر من ان محاولة اسرائيل تخريب اتفاق نقل المسؤولية في المعابر الحدودية في غزة لسيطرة حكومة الوحدة من شأنه ان يأتي بتجدد إطلاق النار من الجنوب واشتعال الجبهة الشرقية.
نتنياهو شعر براحة أكثر في مسيرة المواجهة من شعوره بذلك في مسيرة السلام، فعندما يتململ العالم كله لصور القتل الذي تقوم به داعش وقطعهم لرؤوس الصحافيين؛ فمن يهتم بالاحتلال الاسرائيلي وبصناعة الاستيطان؟ "إذا قرأتموها بإمعان ستلاحظون ان "المبادرة السعودية" جاءت الى الدنيا في زمن مختلف، قبل ظهور حماس وتوليها السلطة في غزة، وقبل داعش التي اجتاحت أجزاءً من العراق وسوريا"، قال نتنياهو في إجابة عن سؤال لـ "الجيروزاليم بوست" عن استعداده لقبول المبادرة، والتي تقترح على اسرائيل السلام مقابل الأراضي، وما يمكن عمله الآن قال نتنياهو "هو خلق التساوي بين معركتنا ضد حماس وبين الحرب التي يقوم بها الغرب ضد داعش"، وهو مقتنع انه إذا واصل الغرب الحرب على داعش فإن أشخاص كثر سيفهمون التهديد الذي تواجهه إسرائيل، وسينتج عن هذا انخفاض مستوى الانتقاد الشديد الموجه لإسرائيل من قبل المجتمع الدولي.
ولنفترض ان نتنياهو صادق، وان جرائم حماس في الضفة الغربية وغزة تضاهي جرائم داعش في العراق وسوريا؛ فما العلاقة إذاً بين هذه المساواة وبين الانتقادات الدولية لسيطرة اسرائيل على ملايين العرب الذين ليس لهم حقوق سياسية وضد ضم أراضيهم؟
الصراع الاسرائيلي الفلسطيني واحتلال المناطق ولدوا قبل داعش بسنوات كثيرة، وقبل احتلال "الارهابيين الإسلاميين" مناطق في الإقليم، هذا الصراع لن يختفي بعد ان يقضي التحالف الغربي العربي على أبي بكر البغدادي، لأنه لم ينتهِ بانتهاء حياة الطاغية صدام حسين على أيدي الائتلاف في حرب الخليج الثانية.
بعد نصف عام (26 مارس 2015) سيكون عباس في الـ 80 من عمره، وقد نكون شهوداً على النداء الأخير لزعيم فلسطيني من على المنبر الأممي لإنقاذ السلام الذي أرجو ألا نشتاق إليه.
ترجمة اطلس للدراسات


