بيروت ـ "رويترز": أصبح تنظيم الدولة الإسلامية الذي اشتهر بجز الأعناق والصلب والإعدامات الجماعية يوفر الكهرباء والمياه ويدفع الرواتب وينظم حركة المرور في الشوارع ويدير كل شيء تقريباً من المخابز الى البنوك والمدارس والمحاكم والمساجد في شمال شرقي سورية.
وفي حين أن أساليبها عديمة الرحمة في ساحة القتال وتشددها في فرض تفسيرها المتشدد للشريعة الإسلامية جعلها محط الأنظار فإن الناس الذين يعيشون في كنفها يقولون إن جانبا كبيرا من قوتها يكمن في كفاءتها وقدرتها التي تتسم بقدر كبير من النهج العملي في الحكم.
وتمثل محافظة الرقة في شرق سورية أفضل مثال على ذلك، ويرى أفراد التنظيم أن المحافظة تمثل صورة مثالية للحياة في ظل الخلافة الإسلامية التي يأملون أن تمتد يوماً من الصين الى أوروبا.
وعاصمة المحافظة مدينة كان يقطنها نحو ربع مليون نسمة قبل بدء الحرب السورية قبل نحو ثلاثة أعوام وأصبح التنظيم مسيطراً على كل المؤسسات والخدمات العامة فيها تقريباً.
وقال أحد النشطاء من الرقة يعيش في مدينة حدودية في تركيا لرويترز: لنكن صادقين، إنهم ينجزون عملاً مؤسسياً هائلاً. شيء مبهر.
وفي مقابلات تمت كلها عن بعد وصف سكان يعيشون في المحافظة ومقاتلون في الدولة الإسلامية بل ونشطاء يعارضون المجموعة كيف أقام التنظيم هيكلاً مشابهاً لحكومة حديثة في أقل من عام تحت قيادة زعيمه أبو بكر البغدادي.
ولا يستطيع مراسلو رويترز زيارة المنطقة لأسباب أمنية.
وأثار ما حققه التنظيم من تقدم انزعاج القوى الغربية والإقليمية الشهر الماضي وشبهه الرئيس الأميركي باراك أوباما بسرطان لا بد من استئصاله من الشرق الأوسط، وبدأت الطائرات الحربية الاميركية تقصف مواقعه في العراق.
لكن الدولة الإسلامية تغلغلت في نسيج الحياة اليومية في مناطق مثل الرقة لدرجة سيكون معها من شبه المستحيل أن تتمكن الطائرات الأميركية والقوات العراقية والسورية والكردية اقتلاعها بالقوة وحدها.
عروس الثورة
في العام الماضي أصبحت الرقة أول مدينة تسقط في أيدي المقاتلين الذين يحاربون للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد. وأطلقوا عليها "عروس الثورة".
وكان لعدة جماعات مقاتلة من الإسلاميين المتشددين الى جماعات دينية معتدلة نفوذ في المدينة رغم أنه كان من الواضح أن الإسلاميين هم القوة المهيمنة. وخلال عام استطاعت الدولة الإسلامية أن تمسك بكل الخيوط وسعت للقضاء على كل خصومها فلم تأخذها بأحد شفقة أو رحمة.
وكان مصير النشطاء من منتقدي التنظيم القتل أو الاختفاء أو الهروب الى تركيا. ومنع تناول المشروبات الكحولية، وأُغلقت المتاجر عصرا وأصبحت الشوارع خالية من المارة عند حلول الظلام، ولم يسمح بالاتصال بالعالم الخارجي بما في ذلك المدن المجاورة إلا عن طريق المركز الإعلامي للدولة الإسلامية.
وأعلن من بقي من المقاتلين والنشطاء توبتهم ومن خلال التوبة يعلنون البيعة للبغدادي، ما يتيح لهم أن تغفر لهم الدولة الإسلامية ما ارتكبوه بحقها من ذنوب. ولزم البعض بيوتهم وسُمح لآخرين بالانضمام الى صفوف التنظيم.
غير أنه بعد الحملة المشددة في أول الأمر بدأ التنظيم يقيم الخدمات والمؤسسات، موضحاً بكل جلاء نيته في البقاء ومستخدما المنطقة كقاعدة في سعيه للقضاء على الحدود بين الدول وإقامة "الدولة" الإسلامية.
وقال أحد القادة في المحافظة لرويترز: نحن دولة. والأمور رائعة هنا لأننا نحكم بما أنزل الله.
وبقي بعض المسلمين السنة الذين كانوا يعملون في حكومة الأسد بعد أن بايعوا التنظيم.
وقال أحد المقيمين في الرقة ممن يعارضون الدولة الإسلامية لرويترز: المدنيون الذين ليس لهم أي انتماءات سياسية تكيفوا مع وجود الدولة الإسلامية لأن الناس سئموا وملوا.. وللأمانة .. لأنهم يقومون بعمل قائم على المؤسسات في الرقة.
وأضاف إنه منذ ذلك الحين "استعاد التنظيم كل المؤسسات المرتبطة بالخدمات وأعاد هيكلتها" بما في ذلك مكتب حماية المستهلكين والقضاء المدني.
الوحشية والنهج العملي
وفي الشهر الأخير وحده نشر مقاتلو الدولة الإسلامية صوراً لعملية جز أعناق الصحافيين الأميركيين جيمس فولي وستيفن سوتلوف وأسرى أكراد ولبنانيين، وكذلك مشاهد تصور عمليات إعدام عشرات الأسرى السوريين بالمدافع الرشاشة وهم لا يرتدون سوى ملابسهم الداخلية.
لكن استخدام التنظيم للعنف لم يكن عشوائياً بالكامل. فقد أبرم معاملات مع رجال أعمال موالين للأسد كلما اتفق ذلك مع مصالحه.
ويقول أحد المقاتلين ان موظفاً كان يعمل في السابق بحكومة الأسد أصبح مسؤولا عن المطاحن وتوزيع الطحين على مخابز الرقة. وبقي العاملون في سد الرقة الذي يزود المدينة بالكهرباء والمياه في مناصبهم.
ويكشف استعداد الدولة الإسلامية لتوظيف العاملين السابقين في أجهزة حكومة الأسد عن اتجاه عملي يقول بعض السكان والنشطاء إنه أساسي لنجاح الدولة الإسلامية في الاحتفاظ بالأراضي التي استولت عليها.
وساعد الدولة الإسلامية أيضا مجيء خبراء من دول أخرى من بينها دول في شمال أفريقيا وأوروبا، فالرجل الذي اختاره البغدادي على سبيل المثال لادارة قطاع الاتصالات في الرقة وتطويره تونسي يحمل الدكتوراه في هذا التخصص كان قد غادر تونس وانضم للتنظيم وأصبح يعمل في "الدولة".
وفيما يعكس تأكيد الدولة الإسلامية أنها حكومة لا مجرد جماعة من المتشددين، فصل البغدادي العمليات العسكرية عن الإدارة المدنية وعين بعض المقاتلين كرجال شرطة وبعضهم جنوداً في الوحدات المقاتلة.
وعين البغدادي نواباً مدنيين أطلق عليهم الولاة لإدارة المؤسسات وتطوير القطاعات.
وتقسم المناطق الإدارية الى ولايات تتفق في بعض الأحيان مع التقسيمات الحالية لكنها يمكن أن تتجاوز الحدود بين سورية والعراق مثلما هو الحال في ولاية الفرات التي تأسست في الآونة الأخيرة.
ويتلقى المقاتلون والموظفون رواتب من إدارة تسمى بيت المال تقوم بدور أشبه بدور وزارة المالية وبنك يهدف إلى الحد من الفقر.
ويحصل المقاتل على سكن ربما يكون في أحد البيوت التي تمت مصادرتها من السكان المحليين من غير السنة أو من الموظفين الحكوميين الذين هربوا من المنطقة، بالإضافة الى ما يتراوح بين 400 دولار و600 دولار شهرياً، وهو ما يكفي لسداد الاحتياجات الأساسية للحياة في شمال شرقي سورية الفقير.
وقال مقاتل ان الأُسر الفقيرة تحصل على مساعدات مالية، اذ تحصل الأرملة على 100 دولار لنفسها ومثلها لكل طفل من أطفالها.
كذلك فإن الدولة تعمل على بقاء الأسعار منخفضة، وتعاقب التجار المتلاعبين بالأسعار وتنذرهم وتغلق متاجرهم اذا كرروا المخالفة.
كما فرض التنظيم ضرائب إسلامية على كبار التجار والأسر الثرية. وقال جهادي في الرقة: نحن لا نطبق سوى الإسلام. والزكاة ضريبة إسلامية فرضها الله.
ويقدر المحللون أن الدولة الإسلامية تجمع أيضاً عشرات الملايين من الدولارات من خلال بيع النفط من الحقول التي تسيطر عليها في سورية والعراق لرجال أعمال أتراك وعراقيين وطلب فدى لإطلاق سراح من تحتجزهم رهائن.
البغدادي صاحب القول الفصل
وعلى رأس الدولة الإسلامية يقف زعيمها البغدادي الذي أعلن نفسه خليفة للمسلمين في حزيران الماضي بعد انشقاقه على تنظيم القاعدة الذي كان يعمل في السابق تحت لوائه.
ويتفق سكان في المدينة ومقاتلون ونشطاء في الرأي أن البغدادي منشغل بشدة الآن في إدارة الرقة وله القول الفصل في كل القرارات التي يصدرها الولاة والمسؤولون، وتقول المصادر المحلية ان أسعار السلع المحلية تعرض عليه.
ويقول بعض السكان ان البغدادي يقر أيضاً عمليات قطع الرقاب وغيرها من الإعدامات وأحكام معاقبة المجرمين الذين تدينهم المحاكم الإسلامية.
ويصفه مقاتلون بأنه قائد رهيب يتمتع بخبرة كبيرة في ساحة المعركة.
وقال المقاتل السوري ان البغدادي قاد معارك كبرى مثل معركة استعادة قاعدة عسكرية سورية معروفة باسم الفرقة 17 في تموز الماضي والتي كانت أول معركة في سلسلة من الهزائم التي ألحقها التنظيم بقوات الحكومة السورية في محافظة الرقة.
وقال المقاتل: هو لا يترك الأخوة. كما أنه أصيب بجرح بسيط في معركة استعادة الفرقة 17 لكنه بخير الآن.
وأضاف: هو دائم الحركة، ولا يبقى في مكان واحد، ويتنقل بين الرقة ودير الزور والموصل، فهو يقود المعارك.
جهاد الجيل التالي
رغم أن النهج العملي كان مفتاح نجاح التنظيم، فالعقيدة أيضا لها دور حيوي في الحكم.
فقد استهدف البغدادي من خلال إعلان الخلافة وإقامة الدولة جذب الجهاديين والخبراء من دول أخرى، واستجاب الآلاف حسب ما يقول أنصاره.
وفي الوقت نفسه يقول الجهاديون ان أثرياء الإسلاميين أرسلوا المال من مختلف أنحاء العالم الى الرقة لدعم الخلافة.
وتقول مصادر في الرقة إن المجموعة تدير ثلاثة مصانع للأسلحة تهدف في الأساس لتطوير صواريخ، ويتولى حراس حماية علماء أجانب يقيمون في مكان خاص من بينهم مسلمون من الصين حسبما يقول مقاتلون.
وقال جهادي عربي: علماء ورجال يحملون شهادات ينضمون للدولة.
كما استثمر التنظيم بكثافة في الجيل التالي بتعليم الأطفال أسس العقيدة. وأصبحت المناهج الابتدائية والثانوية والجامعية تتضمن المزيد من الدراسات الإسلامية.
كذلك فان التنظيم يقبل مشاركة المرأة في القتال ويتم تدريب المتطوعات من النساء وتلقينهن دروساً في الإسلام ودواعي القتال.
وتنظم مجموعات للدراسات الإسلامية في المساجد للمقاتلين الجدد الذين يقول متشددون في الرقة إنهم أقبلوا على الأراضي الخاضعة للدولة الإسلامية بأعداد أكبر منذ أعلن البغدادي الخلافة.
وقال الجهادي العربي: كل ثلاثة أيام نستقبل ألف مقاتل على الأقل. بيوت الضيافة تمتلئ عن آخرها بالمجاهدين. ونفدت أماكن الاستقبال لدينا.


