خبر : حرب غزة : محمود درويش، الغائب الحاضر ...عادل الاسطه

الأحد 10 أغسطس 2014 01:44 م / بتوقيت القدس +2GMT



في أثناء الحرب على غزة كانت أشعار محمود درويش، على صفحة الفيسبوك الخاصة بي وبأصدقائي، هي الأكثر حضوراً، ما جعلني أتساءل عن السبب، بخاصة أنه رحل منذ ست سنوات ـ هذه الأيام تصادف الذكرى السادسة لرحيله ـ وأنه ليس من مواليد المدينة التي يعد الشاعر معين بسيسو الذي دفن في القاهرة أبرز شعرائها، وكان درويش كتب عن علاقة رفيق دربه بمدينته كتابة تشير إلى أننا إذا أردنا أن نقرأ عن غزة في نصوص كاتب ما، فما علينا إلاّ أن نقرأ أشعار بسيسو ومسرحياته: "غزة ملكيته الشخصية، ومملكته الشعرية الخاصة. كم ستبدو غزة ناقصة" دون معين بسيسو.
ومن قرأ أشعار معين ومسرحياته في نهاية 60 ق20 وبداية 70 ق20 لا يفاجأ بالقسوة التي مارستها إسرائيل في حربها الأخيرة، بل وفي حروبها وغاراتها السابقة، على غزة، وهي حروب وغارات بدأت في 50 ق20 ولما تنتهِ.
والأدبيات الفلسطينية التي كتبها معين وغسان كنفاني وهارون هاشم رشيد ومحمود درويش، وأدباء غزة من جيل السبعينيات حتى اليوم خير دليل على هذا.
كتب معين مسرحيته "شمشون ودليلة" التي ما زالت صالحة لتفسير ما يجري، والتي ربما تقول لنا: لا تتفاجؤوا بهذه القسوة الإسرائيلية، ولا تستغربوا هذا التدمير لأحياء الشجاعية وخزاعة ولرفح أيضاً. "قاتلنا الجرح الأول، وعلينا ألا نجرح أبداً يا شمشون"، هذا ما تقوله راحيل التي تضيف بأن قدر الإسرائيليين غير أقدار الناس جميعاً، فقدرهم قدر الأجراس إن كفت تقرع ماتت. وإن كف الإسرائيليون عن قتل الفلسطينيين المقاومين انتهوا، وإن جرحوا مرة ماتوا.
ومعين ولد في الشجاعية، وتعلم في غزة، وعاش بعيداً عنها، منذ هزيمة 1967، ومات في لندن، ودفن في القاهرة في 1984، ولم يجد له قبراً في مدينته التي كتب عنها كتابة شاعرية في سيرته: "دفاتر فلسطينية" (1978).
هل خطر ببال نتنياهو وطياريه ورجال مدفعيته، وهم يدمرون حي الشجاعية أنه حي معين بسيسو؟ هل كان هؤلاء يتذكرون ما فعله الغزيون وابنتهم دليلة بشمشون، وبالتالي ربطوا بين الماضي والحاضر؟ هل ما زالت عقدة شمشون تكمن فيهم؟
في سيرته لا ينسى معين بسيسو ما حدث لشمشون، بل إنه يربط بين مقاومة الفلسطينيين في غزة، ما بين 1967 و1971، وما فعله الفلسطينيون الأوائل بشمشون وقومه "وغزة التي لوت ذات يوم قرنيْ "شمشون" وأرغمت هذا الثور الأمي الصهيوني الذي كان في عضلاته أول بذور الصهيونية، أرغمت هذا ـ القوة الهمجية ـ الذي كان يربط قصاصات النيران في ذيول بنات آوى ويطلقها في زمن الحصاد، لتحرق قمح أجدادنا الفلسطينيين القدامى. غزة أرغمت هذا الشمشون على أن يفعل رغم إرادته شيئاً مفيداً، أن يجر طاحون المعصرة، أن يكتب معادلة موته: ـ السم الصهيوني ضد الزيت الفلسطيني".
وفي سيرته يأتي معين أيضاً على إفشال غزة في 50 ق20 مشروع توطين اللاجئين في سيناء، ما دفع إسرائيل للقيام بغارات على المدينة أوقعت في أبنائها قتلى وجرحى، وهو ما يقرؤه المرء أيضاً في قصة غسان كنفاني "ورقة من غزة"، بل وفي روايته "ما تبقّى لكم" (1966).
في أثناء الحرب الأخيرة على غزة كان محمود درويش حقاً هو الأكثر حضوراً، حتى من معين بسيسو نفسه الذي اعتبر غزة ملكيته الشخصية، وكتب عنها نصوصاً كثيرة: قصائد ومسرحيات وسيرة ذاتية أيضاً، فلماذا لم يحضر معين بالدرجة الأولى؟
لست معنياً، الآن، بالإجابة عن السؤال السابق، فما يهمني هو حضور نصوص محمود درويش، الغائب الحاضر.
وربما ارتبط بالسؤال السابق سؤال آخر هو: لِمَ لَمْ تحضر نصوص أدباء غزة الأحياء حضوراً لافتاً؟ غريب عسقلاني صاحب رواية "الطوق" (1980) وربعي المدهون صاحب رواية "السيدة من تل أبيب" (2010) و.. و...، وفي الروايتين المذكورتين حضور لغزة ومعاناتها؟ الآن الشعر هو أكثر استجابة للحدث؟
لم يقم محمود درويش في غزة، وكنت، وأنا أقرأ أشعاره الصادرة في 70 ق20، كنت أظنه زارها. في قصيدته "الخروج من ساحل المتوسط" من ديوانه "محاولة رقم 7" (1974) يكتب:
"وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب، كنت أهرب/
من أزقتها، وأكتب باسمها موتي على جميزة، فتصير سيدة/
وتحمل بي فتى حراً".
وهي قصيدة شاعت وانتشرت وحفظ بعض أبناء غزة، زمن كتابتها، بعض مقاطع منها، أكثر مما حفظوا بعض مقاطع معين. كانت غزة يومها تقاوم، وكانت توجع الإسرائيليين ما دفع بوزير الدفاع الإسرائيلي، في حينه، (أرئيل شارون) إلى هدم أحياء كاملة في مخيماتها، حتى لا يخرج من أزقتها الفدائيون الذين يختفون بسرعة إذا ما لاحقهم الجنود الإسرائيليون.
في 60 ق20 و70 ق20، تحديداً ما بين 1967 و1971، سرت إشاعات في غزة أن شواهد القبور تتمايل وتتحرك، كأنها تريد مقاومة الاحتلال.
طبعاً قبور الشهداء، وقد أورد هذه القصة الروائي اميل حبيبي في روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) وهو ما أشار إليه محمود درويش في قصيدته المذكورة:
"إذن تتحرك الأحجار،
إن طلعوا، وإن ركعوا، وإن مروا، وإن فروا"
و"وتنفس القبر القديم،
تحرك الحجر.. استرد دبيبه منكم".
وربما كان النص الأكثر حضوراً لدرويشن في أثناء الحروب على غزة: 2008 ـ 2009/ 2012/ 2014، هو نصه النثري الذي كتبه في 70 ق20 ونشره في كتابه النثري الجميل "يوميات الحزن العادي" (1973). هذا نص طازج، كأنما كتب للتو، بل إن المرء حين يقرؤه، في أثناء الحروب على غزة، يتخيل أن صاحبه كتبه في أثناء الحرب الأخيرة الدائرة.
كان العدو الإسرائيلي، بعد انتصاره في حرب 1967، مبتهجاً بأحلامه ومفتوناً بمغازلة الزمن ـ والتعبير لدرويش ـ إلاّ في غزة التي كانت بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء: "لأن غزة جزيرة كلما انفجرت، وهي لا تكف/ عن الانفجار خدشت وجه العدو وكسرت أحلامه وصدته عن/ الرضا بالزمن./ لأن الزمن في غزة شيء آخر".
هل قرأ محمود درويش كتاب الناقد المصري غالي شكري "أدب المقاومة" ولم يرق له رأي غالي حين كتب أن شعراء فلسطين المحتلة في العام 1948 هم شعراء احتجاج لا شعراء مقاومة، لأنهم لا يدعون إلى المقاومة بالسلاح، فكتب نصه عن غزة؟
ما كتبه درويش في نصه هذا "صمت من أجل غزة" يبدو وكأنه كتبه الآن أيضاً، ولم يعد الشاعر يكتب عن المدينة إلاّ حين زارها في 1996.
في كتابه "في حضرة الغياب" (2006) يأتي على عودته، إثر اتفاقات أوسلو، إلى فلسطين، وحين عاد سافر إلى غزة أولاً، لا إلى رام الله، فلم ترق له المدينة التي وصفها بأنها "مدينة البؤس والبأس".
زار درويش، في الضحى الحار، المخيمات، ومشى بصعوبة في الأزقة وخجل من الماء والنظافة و"ولا تصدق، كما لم تصدق أبداً، أن أوعية البؤس هي الشرط الوحيد لتخليد أو تأكيد حق العودة. لكنك تتذكر ما ينبغي لك ألاّ تنساه: ضمير العالم. وتشتم نظريات التقدم وقصدية التاريخ التي قد تعيد البشرية إلى الكهف".
وفي أثناء الحرب الأخيرة على غزة كان درويش الغائب الحاضر.
عادل الأسطة