غزة سماتتوحد إسرائيل في هذه الأيام خلف مطلب الثأر والانتقام وإنزال أقسى العقوبات بالفلسطينيين، شعباً ومؤسسات وتنظيمات وأفراد، مع التركيز على حركة حماس، بالقصف والاغتيال والخطف والاعتقال والطرد ونسف البيوت والحصار وخنق الاقتصاد واغلاق المؤسسات وتعميق الاحتلال ومصادرة الأرض واقامة المزيد من المستوطنات الجديدة وآلاف الوحدات الاستيطانية في المستوطنات القائمة؛ هذا ما عبر عنه الغالبية الكبيرة من الإسرائيليين، وطالبوا به سوية مع ممثليهم في الكنيست وفي الحكومة، الانتقام كان كلمة السر التي وحدت بيريس مع أصغر متطرف من بين عشرات الآلاف الذين شاركوا في مهرجان دفن المستوطنين القتلى، ومع عشرات آلاف المشاركات في شبكات التواصل الاجتماعي التي قادها زعيم عصابة "البيت اليهودي" نفتالي بينيت.
وبمقابل هذه الأصوات؛ ترتفع أصوات نخبوية تحذر من الرد الانفعالي الذي يطالب به اليمين، وتطالب، أو تنصح، برد متعقل موزون، إدراكاً منها ان يد اسرائيل مغلولة، وليست طليقة كما يتصور البعض.
إسرائيل بإعلامها ونخبها وسياسييها خرجت عن طورها بشكل مفتعل ومصطنع ومبالغ فيه جداً عقب نشر أخبار العثور على المستوطنين قتلى، وكان ملفتاً للنظر في هذا السياق تلك الاحتفالية بتشييع القتلى الثلاث، والتي أريد لها ان تخرج بهذه الطريقة التي تحمل رسائل كثيرة للعالم الخارجي بشكل خاص، رسائل تقول ان مصاب إسرائيل جلل، وكأنه ضربتها كارثة كبيرة، وان الفلسطينيين "ارهابيون قتلة، يمارسون أبشع أنواع القتل الوحشي للأطفال، وقد تولت وزيرة الرياضة والمسؤولة عن تنظيم المراسيم والطقوس الرسمية مسؤولية تنظيم واخراج احتفالية الدفن.
نعم إسرائيل أرادت استثمار الحدث أقصى ما يمكنها، ولأطول فترة ممكنة لاستدرار التعاطف معها من جهة، وإدانة "وحشية" الفعل الفلسطيني من جهة أخرى، واحتلال عناوين الصحافة ووكالات الأنباء الأجنبية باعتبارها ضحية "الإرهاب" والتحريض السياسي على حكومة الوفاق، والحصول على ضوء أخضر وتفهم دولي لحقها في الرد.
نتنياهو يتصرف وكأن العملية (الخطف والقتل) جاءته هدية من السماء لتمكنه من قلب الهرم على رأسه، وقلب الحقائق والتغطية على الحقيقة الأولى والاساسية؛ ألا وهي حقيقة الاحتلال بكل ما يحمله ذلك من انتهاك وتعدٍ وجرائم بحق البشرية، فقد منحته العملية رصيداً ثميناً يخشى إذا ما نفذ ان يعود لمرحلة فقدان الشرعية والضغوط السياسية.
اجتماع الكابنيت واليد المغلولة
على خلفية الأصوات المطالبة بالانتقام وفصل الرؤوس؛ عقد نتنياهو أول أمس الاجتماع الأول للمجلس الأمني السياسي المصغر "الكابنيت"، وفضل ان يمنح الوزراء حق الحديث، بينما اكتفي هو بالصمت، بعد ان افتتح الاجتماع بالتعبير عن مدى الغضب، وتحميل المسؤولية لحماس وتهديدها بدفع الثمن.
يبدو انه منذ البداية قرر ان الكابنيت في اجتماعه الأول، حيث لا زالت الرؤوس ساخنة، ليس مناسباً لاتخاذ القرارات، فحوله الى منصة نقاشات وجس نبض وتنفيس للوزراء الذين ينتمون للجناح الأكثر تطرفاً، وترك للجناح الأقل تطرفاً (ليفني ولبيد) التصدي لمطالب بينيت، في نقاش وصفه الاعلام بالعاصف، وقد حرصت سكرتاريا الكابنيت ان تسرب أهم النقاط التي تمركز حولها النقاش والاختلاف.
يعلون، كما قائد الجيش غانتس، كانا مفيديْن جداً لنتنياهو؛ حيث انتقد يعلون، وهو الذي يوصف بالأكثر تطرفاً في "الليكود" ويحمل الحقيبة الأمنية، انتقد اقتراحات بينيت، ووصفها بردود الفعل الانفعالية التي تنطوي، إذا ما نفذت، على تدهور أمني خطير، وقدم اقتراح ببناء بؤرة استيطانية في منطقة "غوش عتصيون"، وفي الشق الأمني الموافقة على هدم بيوت المقاومين وقصف بعض المواقع في القطاع كرسائل تحذير لحماس ورداً على إطلاق الصواريخ.
نتنياهو قام بتأجيل اتخاذ القرارات الى اجتماع اليوم التالي، رغبة منه في أخذ مزيد من الوقت للتشاور والدراسة مع قادة الائتلاف، وربما لاستمزاج رأى البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي، ولإعطاء فرصة لأية وساطة مع حماس غزة.
أمس، وقبل الدخول لاستكمال مشاورات الكابنيت، أعلن نتنياهو ثلاثة أهداف للعملية الإسرائيلية؛ الوصول للمنفذين، وضرب البنية التحتية لحماس في الضفة، وتوجيه ضربات لحماس غزة، التي اتهمها بالمسؤولية عن إطلاق الصواريخ، وهدد أن جيشه جاهز لتوسيع ميدان المعركة إن استوجب الأمر. أما يعلون فقال في نفس المؤتمر: "إن الرد يجب أن يكون متعقلاً وموزوناً"، وأقوال يعلون ربما تؤشر على طبيعة الرد الإسرائيلي الذي من المتوقع أن يكون نتنياهو قد نسقه مع يعلون قبل دخول الكابنيت لاتخاذ القرار.
على الرغم من الرغبة الكبيرة لدي متخذ القرار الاسرائيلي في الرد بوحشية وعنف كبيرين في الضفة والقطاع؛ الا انه يصطدم بمحدودية قدرته في ظل الظروف والبيئة الدولية، التي سرعان ما ستحول الضوء الأخضر الى أحمر، بالإضافة الى ما هو أهم في نظر المسؤولين الإسرائيليين، الا وهو قدرة المقاومة على الرد والردع؛ فما تمتلكه المقاومة من قدرات صاروخية تصل الى مدينتهم الأهم، تل أبيب، تجعل أي مغامرة عسكرية كابوساً يؤرق المستوى السياسي والأمني، وهذا ما عبر عنه صراحة المعلق العسكري للقناة العاشرة الون بن دافيد، حيث قال ان قصة العدوان على غزة لها علاقة باستعداد تل أبيب لتلقي الصواريخ، هذا علاوة على ان اسرائيل وحماس لا زالت لهما مصلحة في استمرار التهدئة، ويقول ايهود يعاري من القناة الثانية ان حماس في أزمة كبيرة، ويشبه سقوطها بالسقوط الحر، أي بدون مظلة او فرامل، وان حكومة الوفاق في أزمة وقد تنهار قريباً، ويستنتج ان أي عدوان على حماس غزة قد يخرجها من أزمتها.
نتنياهو الذي وضع لنفسه هدف اسقاط حكومة التوافق وابقاء الانقسام؛ ربما يعتقد انه من غير الصائب القيام بعدوان واسع على غزة. وعليه فيد الاحتلال رغم طولها وغلظتها، فهي يد مغلولة مقيدة ومكبلة، وربما سينتهي قرار الكابنيت بمجموعة قرارات عدوانية في الضفة ذات طبيعة انتقامية من الكل الفلسطيني، رغم تركزها العلني بحركة حماس، مع الميل ان نتنياهو سيفضل تعويض اليمين بالاستيطان، وان يفسح المجال للجيش والأمن بالعبث بالعمق الفلسطيني، أما على ساحة القطاع فإننا نعتقد ان الرد سيكون عدواناً محدوداً يحمل رسالتين؛ رسالة ردع وإرهاب وأخرى تتمسك بالتهدئة.


