إننا في سمبروفول في شبه جزيرة القرم، وقد مرت على العالم عشرة أنواع من الاحتلال وكل احتلال وشأنه. لكن احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم واحد من أعجبها. إن القاعدة الكبيرة لجيش البر الاوكراني تقع في بيريفالينيا، وهي بلدة في مركز شبه الجزيرة بين ساحل البحر الاسود ومدينة سمبروفول. وقد ضرب جنود الجيش الروسي حصارا على القاعدة وسجنوا جنودها في الداخل. وتقول الاشاعات إنهم جعلوا الضباط والجنود يقفون أمام اختيار قاس: فاما الاستسلام والانضمام الى جيش الاحتلال الروسي، وإما الجوع حتى الموت. فأجابهم الجنود بفخر: نموت ولا نخون دولتنا.
وهكذا تبدو الحال على الارض: إن سيارات عسكرية روسية وشاحنات وناقلات جنود مدرعة تحمل الرشاشات وتنادر وسيارات جيب مستعدة في نظام يُحتذى به في الميدان عند مشارف القاعدة. وعدد القوات هو عدد قوات كتيبة. وتسير سيارات عسكرية روسية في الشارع بلا تشويش عليها. فهكذا بلغت الى هدفها قبل اسبوع ولم تصفر رصاصة ولم يُرم حجر. بل صاحوا في الأكثر صيحات تشجيع لهم عن جوانب الطرق.
وتجري الكتيبة الروسية حول القاعدة العسكرية حراسة راتبة: الجنود مسلحون من أخماص أقدامهم حتى خوذاتهم، والسلاح مُعد، والوجوه مقنعة. إن الاقنعة الصوفية التي تغطي كل وجوههم عدا العيون، تعطيهم منظرا مهددا. والامر العسكري الذي تلقوه هو الامتناع عن أي اتصال بالسكان. فهم يقفون ساعات في ذلك المكان بازاء المواطنين وبازاء فرق وسائل الاعلام التي جاءت من العالم كله، يقفون ويصمتون.
لكن المنظر قد يكون مضللا لأن نظرة أعمق تُبين أن المواطنين الذين يحيطون بهم هم مواطنون يؤيدون الاحتلال. ويضع أكثرهم أشرطة برتقالية – سوداء وهو الرمز الذي تبناه محبو روسيا في اوكرانيا. وهم يُظهرون السلطة، ويُبينون للمصورين ما الذي يجوز لهم تصويره وما الذي لا يجوز. ويسيطرون على الاحاديث بالقرب من باب القاعدة العسكرية. تقدم واحد منهم من مترجمتي ليسأل ما الذي أفعله أنا وهي هناك. قلت: هو المبعوث المحلي للـ كي.جي.بي، فقالت ماذا دهاك إنه مجرد مواطن.
من وراء الجنود في داخل القاعدة العسكرية الاوكرانية سار جنود في سكينة. وكانوا ينظرون من آن لآخر الى الخارج من وراء ظهور الجنود الروس. ووقفت بالقرب من الباب مجموعة نساء هن زوجات ضباط وعسكريين اوكرانيين. وسمح لهن الاشخاص الذين يضعون الاشرطة البرتقالية السوداء – ولهن فقط – بالمرور فوقفن بالقرب من جدار القاعدة العسكرية ينتظرن بشرى. لم يوجد احتكاك ولم يوجد عنف. وتقدمت من واحدة منهن في الطريق الى الخارج فأشارت بيدها تقول إنها ممنوعة من الحديث.
إن نهر الدنيبر الواسع يقسم اوكرانيا الى دولتين: فالشرقية تطلب العودة الى حضن روسيا؛ والغربية تقدس الدولة القومية. ويدل شبه جزيرة القرم في الطرف الجنوبي الشرقي من اوكرانيا على مبلغ بساطة ذلك ومبلغ تعقيده. إن 60 بالمئة من السكان يُعرفون أنفسهم بأنهم روس، فالاحتلال الروسي في نظرهم خلاص – وخلاص اقتصادي ايضا. ويخشى 25 بالمئة من الروس خشية قاتلة. يوجد بينهم اوكرانيون وتتر ومسلمون ويهود يغضبون على اليهود في المعسكر الخصم، والحديث عن نصف مليون نسمة. وقد قال لي حاخام محلي: "اذا حدث ضم فستنشب حرب".
إن القاسم المشترك الوحيد الذي وجدته هو الخوف من الحرب. وسواء أكان الحديث عن روسيا أم اوكرانيا فانه يبدو أن قليلين هنا مستعدون لأن يقتلوا أو يُقتلوا لاجل أهوائهم. فالذي يفرحه الاحتلال يرفع علما صغيرا لروسيا على سيارته. ومن كان أقل حماسة كتم ذلك في نفسه. وقد رفعوا في الميدان المركزي في سمبرافول وهي مدينة يسكنها ربع مليون شخص، رفعوا علم روسيا على مبنى البرلمان الذي أصبح دمية. وحرس جنود روس الواجهة في الصباح وانصرفوا قبل المساء. وفي مركز الميدان نصب تمثال ضخم للينين هو من بقايا روسيا السوفييتية. وفي مدن اخرى في اوكرانيا هشم زعران تماثيل لينين، لا هنا. وقد ألصق بعضهم ورقة كبيرة عند أسفل التمثال وكتب فيها: "لا تمسوا هذا الرجل العظيم"؛ وأضاف مطرقة ومنجلا باللون الاحمر. وقد أقيمت منصة ضخمة بالقرب من ذلك لاجل عرض ترفيهي كبير استعدادا لمقدم الربيع، وأقيم العرض أمس تحت العلم الروسي.


