ربما وضعُنا اليوم كوضع القائد طارق بن زياد الذي خاطب جنودَه "العدو من أمامكم والبحر من ورائكم" أي أنه لم تكن هناك خيارات أخرى فاختاروا المواجهة، وكان لا بدّ من الانتظار لأن البديل لا يمكن التفكير فيه.
كل المعلومات التي تصل من هنا وهناك حول المساعي الأميركية "لفرض" اتفاق الإطار مرعبة، وإذا ما تمكنوا منا وابتلعناه بصيغته الأميركية المعلنة، لن نكون أفضل من "الواوي الذي ابتلع المنجل" بل ربما ستكون نهاية انتحارية لأهدافنا الوطنية ولأعلام شهدائنا وأسرانا ولاجئينا وأجيالنا المستقبلية.
المشكلة اليوم أن كثيراً من سُفننا حُرقت خلال العقدين الأخيرين، لأننا قبلنا باتفاق يشبه كثيراً ما يحاول وزير الخارجية الأميركي جون كيري تمريره علينا، إطار "عمومي" كغربال سنأخذه لجمع الماء.. كل بند فيه سيحتاج إلى سنوات من التفاوض كحرف اللام في مصطلح "الأراضي المحتلة" أو "أراض محتلة" الذي ورد في القرار (242).
تعالوا مثلاً لنرَ ما يطرحه كيري حول القدس التي يُصرّ نتنياهو على أنه لن يقبل بأي شكل من الأشكال ذكرَها في اتفاق الإطار ويروج لقيادات حزبه وائتلافه الحكومي أنه مُصرّ على ذلك ولو فشلت المفاوضات! كيري يحاول الخروج من هذا المأزق، أيضاً، بمفهوم أكثر عموميةً وهو مصطلح "القدس الكبرى"... فما هي القدس الكبرى؟... أين تبدأ وأين تنتهي؟... وما هي الحدود الملزمة؟... أين الحدود الفلسطينية؟... بحيث أنه بعد سنة أو سنتين أو عشرين سنة سيدّعي المفاوض الإسرائيلي أن هذا المصطلح يعني أن العاصمة الفلسطينية في العيزرية أو أبو ديس أو حتى الرام... وربما "القدس الكبرى" ستشمل رام الله والبيرة التي لا تبعد عن القدس مسافة 10 دقائق!
وفي محاولة أُخرى يطرح كيري بدل "القدس الكبرى" مصطلح تضمين التطلعات الفلسطينية في القدس... فماذا تعني التطلعات... هل هو السماح بالوقوف على جبل مقابل الحرم القدسي للنظر إليه من بعيد؟ أم أن يمنُّوا علينا بالصلاة لمن تزيد أعمارُهم على 60 عاماً في "الأقصى" بطريقة إسرائيلية؟!
وحتى عن الاستيطان فإن البناء الاستيطاني المكثف لم يعد القضية الكبيرة عند الأميركيين أو غيرهم، على اعتبار أنه يمكن إزالة مستوطنات، ولكن ما هي هذه المستوطنات التي سيتم إزالتها، هل هي البؤر الاستيطانية أو ما يطلق عليه الإسرائيليون الاستيطان غير المرخص، أم ماذا؟!
في المقابل فإن الطرح الأميركي الذي يتحدث عنه البعض هو أن تكون هناك أربع كتل استيطانية بدلاً من ثلاث في الضفة الغربية... علماً بأن الكتلة الاستيطانية الرابعة هي التي سيتم تجميع المستوطنين في البؤر الاستيطانية المتناثرة فيها، دون تحديد مساحة هذه الكتلة الجديدة أو موقعها؟! بمعنى آخر تمزيقٌ إضافي للوحدة الجغرافية في الضفة الغربية.
وبالنسبة للحديث عن الأغوار أو اللاجئين أو المياه أو تبادلية الأراضي فإنه أكثر من "سمّة بدن"...
الضغوط الأميركية على القيادة الفلسطينية تزداد بشكلٍ كبير في كل المجالات الاقتصادية والسياسية وأكثر من ذلك، بحيث اتجهت سياسة الضغط الأميركية لاستخدام الدول العربية.
زيارة كيري إلى الأردن والسعودية ومن ثم اجتماع باريس كلها تأتي في هذا الإطار... ولعل الأخطر هو محاولة إقناع القادة العرب بقبول مفهوم "الدولة اليهودية"... وسيسجل التاريخ على أي زعيم عربي قبوله بهذه الفكرة أنه طعن القضية الفلسطينية في مقتل، علماً بأنه حتى لو أعطى العرب ما لا يملكون فلن يقبل الشعب الفلسطيني ذلك مهما كان الثمن.
أمام هذه المخاطر فإن المشهد الفلسطيني يبدو في بعض الأحيان سريالياً... فنحن أمام طريقين: الصمود أو الرفاهية... ولكن أحلام العصافير التي يحاول كثير منا الغوص فيها بأن نحصل على الرفاه والصمود والمقاومة فهو أمر غير ممكن، بل هو في المستقبل يبدو شبهَ مستحيل... وحتى النخب الفلسطينية وخاصةً اليسارية منها الذين يستخدمون أسلحة "الحناجر" أي "الحنجوريين" فيجب أن يكونوا في مقدمة الذين سيختارون بين الرفاه أو الصمود... إذا كان خيارنا الذي لا ثالث له هو الصمود فيجب أن نتخلّى بأسرع ما يمكن عن الاقتصاد الاستهلاكي... عن الغرق في الديون والقروض... وفي الحدّ من الكماليات التي لا لزوم لها... في انتظار الأيام السود... فهل نحن مستعدون للتقشُّف، والادخار الحقيقي... من أجل خيار الصمود والمواجهة؟!
abnajjarquds@gmail.com


