لا نعرف حتى الآن ما الذي قدمه جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، من مقترحات حملت اسمه للسلطة الفلسطينية.. على الرغم من ذلك هنالك أصوات عديدة تطالب برفضها على أرضيات لا نعلم إن كانت موجودة في المقترحات أم لا. البعض يدعي بأن المقترحات حملت وجوداً لإسرائيل في الأغوار.. والبعض يقول إنها تطالب السلطة بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل.. وفريق ثالث يرفضها على قاعدة أنها تلغي حق العودة وفيها مطالبة بالتخلي عن السيادة عن الأماكن المقدسة.
ما نشرته وسائل الإعلام منقولاً عن موقع "ديبكا" الإسرائيلي، يحمل تسعة مقترحات، ليس فيها تواجد للإسرائيليين في الأغوار ولا مطالبة للسلطة بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، لكنها فعلاً تقدم حلاً لقضية اللاجئين على أساس مقترحات كلينتون السابقة، والتي تتضمن مسألتي التعويض والتوطين للاجئين، وفيها أيضاً إدارة مشتركة لمنطقة الحوض المقدس في القدس بمشاركة الأردن والسعودية وأميركا، إلى جانب السلطة وإسرائيل.
إلى جانب ذلك تتضمن المقترحات ربط الضفة بغزة بقطار سريع، وضم كتل استيطانية مع تبادل للأراضي وتقاسم لمدينة القدس. لكن ليس من الواضح فيها طبيعة هذا التقاسم.. هل هو تقاسم على طريقة كلينتون: الأحياء العربية مضافاً لها الحي الأرمني للسلطة والحي اليهودي لإسرائيل؟ كذلك ليس من الواضح إن كانت النسب المطروحة لتبادل الأراضي تشتمل أيضا على المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية أم أن هذه المستوطنات قد استثنيت من عملية التبادل.
شخصياً كنت من الداعين للقبول بمقترحات كلينتون.. لكن هل مقترحات كيري مطابقة لتلك التي عرضها كلينتون؟ هل هي أفضل منها أم أسوأ؟ لا يمكن الدعوة لقبول المقترحات أو رفضها دون معرفة تفاصيلها، لذلك على السلطة أن لا تتردد في طرحها لحوار علني والاستماع لرأي الشارع بشأنها.
من يدخل المفاوضات لا يمكنه الحصول على كل ما يريده.. هذه حقيقة لا يجب إغفالها. والسلطة اختارت دخول المفاوضات وقبلت بها تنظيمات اليسار الفلسطيني الموجودة في اللجنة التنفيذية، حتى لو ادعت عكس ذلك، لأن المنظمة هي التي تفاوض. وحدها "حماس" ومعها حركة الجهاد الإسلامي من يرفضها ومن يقدم البديل لها. لكن خيار منظمة التحرير كان منذ أوسلو هو المفاوضات، وبالتعريف: المفاوضات هي السعي لحلول وسط مقبولة على الطرفين.
في المقابل هنالك قضايا لا يمكن للسلطة القبول بها أياً كانت النتائج، ومنها الإقرار مثلاً بيهودية دولة إسرائيل.. هذا أولاً ليس من اختصاص السلطة، والقبول به ثانياً يعني القبول بترحيل فلسطينيي العام 1948 من بلدهم إن قررت الدولة "اليهودية" أنهم يشكلون خطراً على "يهوديتها".
الحقيقة أن اليمين الإسرائيلي قدم أقصى ما لديه من شروط لدفع الفلسطينيين لرفض أية تسوية، حتى يقال إن من يرفضها هم الفلسطينيون، بينما الحقيقة أن من لا يرغب بالتسوية هو اليمين الإسرائيلي الذي لا يستطيع القبول بمبدأ تبادل الأراضي، او الانسحاب من قلب مدينة الخليل، أو الموافقة على اقتسام القدس. ولأنه يعلم بأن أية تسوية يجب أن تتضمن هذه المبادئ فهو كان وما يزال مصراً على مطلب الاعتراف بيهودية إسرائيل لعل الرفض يأتي من قبل الفلسطينيين.
صفة الدولة اليهودية منحت لليهود قبل قيام دولتهم، وبناء على قرار التقسيم الذي تضمن في حينه وجود الجغرافيا التي تحتوي الغالبية العربية الفلسطينية. لكن توسع إسرائيل على حساب الأراضي التي كان من المفترض أن تكون جزءا من الدولة الفلسطينية جعل منها دولة ثنائية القومية، يعيش فيها اليوم أكثر من مليون ونصف المليون عربي-فلسطيني. إن كانت إسرائيل تريد التأكيد على "عنصريتها" من خلال الادعاء بأنها دولة يهودية فهذا شأنها.. لكن أن يطالب الفلسطينيون بقبول ما تدعيه إسرائيل لنفسها من صفات، خصوصاً عندما تكون غير موجودة فيها، فهذه ليست مفاوضات.. هذا "صلف" يشبه مطالبة محقق كاذب لمتهم بريء بالتوقيع على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها.
على أية حال لا نعرف جوهر مقترحات كيري، وبالتالي لا يمكننا الدفاع عنها أو المطالبة برفضها، وأعتقد بأن من واجب السلطة إعلام شعبها بهذه المقترحات، وان تطرحها للنقاش العام قبل أن تبدي رأيها النهائي فيها.
من المؤكد بأن هنالك تنازلات، وقد تكون تنازلات قاسية ومجحفة، خصوصاً في مسألتي اللاجئين والأماكن المقدسة في القدس، لكن هل تتوقف المسألة على هذه التنازلات أم أن هنالك مسائل أخرى لا نعلمها. مثلا ما هي نسبة تبادل الأراضي؟ وأين ستكون هذه الأراضي التي ستقدمها إسرائيل مقابل ضمها للمستوطنات؟ ما هي النسبة الحقيقية من الأرض التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية من الأراضي التي احتلتها إسرائيل العام 1976 قبل تبادل الأراضي وبعدها؟ وما هي مساحة القدس التي ستكون عاصمة للدولة من المساحة الحقيقية للقدس عندما احتلتها إسرائيل؟ وما هو العرض الخاص بحل قضية اللاجئين؟ هل هو التوطين والتعويض؟ أم التوطين دون تعويض؟ وأين سيتم التوطين وما هي الضمانات لذلك؟ ثم عندما يتم الحديث عن اللاجئين هل يقصد بهم من يعيشون في الخارج من الفلسطينيين، أم من يعيشون في الخارج وفي الضفة وغزة على حد سواء؟ ما هو مصير المعابر؟ هل سيتمكن الفلسطينيون من الحركة بدون قيود أم أن يد الأمن الإسرائيلية ستستمر في التحكم فيهم؟ هذه فقط بعض الأسئلة ومن المؤكد بأن هنالك غيرها الكثير مثل مسألة الحدود وغور الأردن والمياه الإقليمية في غزة والبحر الميت.
لا يمكن للسلطة أخلاقياً وليس من مصلحتها أيضاً أن توقع على اتفاق قبل أن تأخذ رأي شعبها فيه. الفلسطينيون ليسوا مغامرين لكي يرفضوا أي شيء.. وليسوا حمقى أيضاً للقبول بأي شيء. هنالك اتفاقات يمكن العيش معها لأنها تمكن الفلسطينيين من جزء مهم من حقوقهم وتسهل حياتهم.. وهنالك اتفاقات لا تمكن الفلسطينيين من هذه الحقوق وتجعل من حياتهم أكثر صعوبة من الوضع الذين يعيشون فيه اليوم.
لكن حتى تتضح الصورة لا بديل عن الكشف عن هذه المقترحات بشكل رسمي وإخضاعها للنقاش العلني.


