قبل الإفراج عن المعلومات التي تتعلّق بخفايا ما دار بين السيد كيري، والجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي كلّ على حده، يتعذّر على أي تحليل سياسي الإحاطة بالاتجاه الفعلي لمسار المفاوضات، وتحديد مستويات التقدم، وموضوعات الخلاف والاختلاف، وبالتالي المعالم الرئيسية للواقع الذي ستكون عليه الحال في بلادنا من جهة وفي منطقة الإقليم على أغلب الظن من جهةٍ أخرى.
وما أفهمه حتى الآن، هو أن هذه الخفايا تكاد تكون محصورة بالكامل لدى كل من الرئيس أبو مازن والسيد كيري ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
وأغلب الظن أيضاً أن أقرب المقربين من الرجال الثلاثة، وأكثر مستشاريهم مواكبةً للمفاوضات بأدق تفاصيلها، لا يعرفون كل شيء، أو ربما لا يعرفون أكثر من تقديرات مرجحة ناجمة عن حدود القضايا التي تتطلب منهم تقديم الآراء حولها.
مفهوم إلى حدٍ ما أن يتم هذا التكتّم في مرحلة التفاوض الأولية ذات الطابع الاستكشافي أو الاختباري، وربما يمكن أن يكون مفهوماً إلى حدٍ أقل أن يتم هذا التكتّم في مرحلة الاقتراحات "الأساسية" أو الخطوط العريضة للحلول المنشودة، لكن ليس مفهوماً ولا ضرورياً ـ كما أرى ـ عندما يتعلق الأمر بقضايا محورية وتفصيلية تتصل بجوهر الحقوق والأهداف، وكذلك بالأثمان والأثمان المقابلة، وبوجود مرجعيات من عدمها أو ضمانات أكيدة من ضمانات رخوة ومطّاطة وقابلة للنقض والتجاوز والاهمال.
أما وان المعلومات الضرورية للتحليل الرصين هي قيد الأسر حتى الآن، يصبح لزاماً اتخاذ جانب الحذر من جهة والتركيز على الافتراضات المنطقية من جهةٍ أخرى. فهل يمكن الحديث عن حصيلة أولية يمكن التأسيس عليها في رسم معالم الحل أو سيناريوهات الحل الأكثر احتمالاً على التحقق؟
وهل يمكن اعتبار الانتقال من مستوى يمكن الاتفاق عليه في قضيتي الأمن والحدود إلى موضوع الإطار بمثابة تقدم جوهري وقاعدة صلبة للدخول في مناقشات ملموسة لكافة قضايا الحل النهائي؟
وهل عودة كيري إلى الحديث عن يهودية الدولة جاء للتعبير عن حالة مأزق أم محاولة مقايضة الجانب الفلسطيني بالقدر الذي تم إحرازه في قضيتي الأمن والحدود؟
وهل يعتقد السيد كيري أن هذه المقايضة قابلة للتسويق أصلاً، أم ان الاستقواء بالعرب وبعض دول الإقليم يمكن أن تخرج هكذا مقايضة إلى النور وإلى الحيّز الواقعي؟
للإجابة الإجمالية على هذه الأسئلة علينا أولاً أن نتعرف على المشهد الإسرائيلي في تعاطيه مع توجهات كيري، وفي قدرته أيضاً على "محاصرة" كل ما من شأنه "تهديد" أولوياتها أو الحد من طموحاتها وأهدافها التوسعية، إضافة إلى مطالبها الأمنية على المستوى الاستراتيجي العام وعلى الصعيد الجاري المباشر.
الإدارة الأميركية تعتبر كما تعلن ليل نهار أنها ملتزمة التزاماً "مطلقاً" بأمن إسرائيل، والفارق بين الموقف الإسرائيلي والموقف الأميركي على هذا الصعيد هو أن الإدارة الأميركية وهي تسعى لتحقيق هذا الهدف، ومن أجل الوصول إليه فإن المطلوب هو إدماج الضمانات الأمنية لإسرائيل في منظومة سياسية جيواستراتيجية كاملة، يكون للشعب الفلسطيني فيها دولة فلسطينية "منقوصة" السيادة، ولكن ليس إلى درجة افتقادها، في حين ترى إسرائيل أن الوصول إلى هذا الهدف يشترط منع قيام دولة فلسطينية (حتى ولو كانت منقوصة السيادة)، وإنما حكم ذاتي بلديّ الطابع على التجمعات السكانية التي لا تكون قابلة للتواصل إلاّ في إطار منظومة إسرائيلية للتحكم والسيطرة عليها.
وفي هذا الاطار من الخلاف والاختلاف تندرج المواقف الأميركية والإسرائيلية حول كافة قضايا الحل النهائي من المياه والحدود مروراً بالترتيبات الأمنية ووصولاً إلى قضيتيّ العودة والقدس.
أما المشهد الفلسطيني على ضعفه وهشاشته السياسية (في ظل الانقسام) والاقتصادية (في ظل الانكشاف والاعتماد على مساعدات الغرب)، فإنه يطمح بالمقابل أن يكون التوجه الأميركي جاداً إلى درجة اعتبار منقوصية السيادة الفلسطينية مسألة تتعلق بإجراءات وترتيبات مؤقتة (بضع سنوات)، وأن يكون الدعم الدولي جدياً فيما يتعلق بالحدود السيادية للدولة والقدس، وان يتم فعلاً البحث الجاد عن حل متفق عليه لقضية اللاجئين، لأنه في نهاية المطاف لا يمكن تصور وجود حل لهذه القضية العادلة والشائكة دون اتفاق ودون التزام دولي وإسرائيلي لهذا الحل.
الصراع إذن هو بين إسرائيل وبيننا حول حلّين مختلفين تماماً في الشكل والمضمون والأبعاد والمستويات والنتائج.
صحيح أن الانحياز الأميركي لإسرائيل يرجح كفّة فرض الحل الإسرائيلي، وصحيح، أيضاً، أن ميزان القوى وقنوات التحكم الإسرائيلي تزكّي فرض الحل الإسرائيلي، وصحيح كذلك أن موقف ما يُسمى بالمجتمع الدولي ما زال دون التعبير المستقل عن المواقف الأميركية، إلاّ أن الموقف الفلسطيني بحد ذاته وعلى الرغم من ضعفه وهشاشته يشكل نقطة قوة هائلة. لقد ولّى الزمن الذي يمكن فيه تجاوز قيادة الشعب الفلسطيني، وانتهاء عصر القيادة الأميركية المطلقة، ولست مع الرأي الذي يقول إن محصلة الموقف العربي هي ذخيرة احتياطية لأميركا.
إن اتفاقية الإطار هي في الجوهر محاولة أميركية لتغيير مرجعية الحل وتحويل قدرة الشعب الفلسطيني الاستناد إلى الشرعية الدولية أمر خارج إطار الإمكانية الواقعية، وبالتالي فإن هذا سيؤدي ـ كما ترى أميركا ـ إلى الدخول في مساومات لتقليص طموحات الشعب الفلسطيني وحصرها في دولة منقوصة وبحكم بلدي متواضع في بعض أحياء القدس من القرى والمخيمات المحيطة، وبقيود لا حصر لها لعودة الفلسطينيين إلى أراضي الدولة الفلسطينية، وتحويل حق العودة الأصلي أو موضوع جمع شمل بعض "الحالات"، ثم تحويل التعويض إلى موضوع دولي وعربي في إطار مقايضة شيلوكية مع أملاك اليهود في العالم العربي.
لهذا فإن الصمود السياسي يتطلب إضافة إلى موضوع استعادة الوحدة وتجديد شرعية كامل النظام السياسي رفضاً مطلقاً ونهائياً لما يسمى بيهودية الدولة أولاً، ورفض اتفاق الإطار، إلاّ إذا نصّ بشكل واضح وصريح وملموس على الأهداف الوطنية والحقوق الوطنية بكل ما يتطلب ذلك من آليات ملموسة للتنفيذ، وليس للتفاوض، وحسب مرجعيات القانون الدولي والأهم بضمانات دولية موثّقة في الأمم المتحدة.
إذا ما تمسّك الجانب الفلسطيني بكل هذا ـ وهذا ممكن وضروري ـ فإن المعركة ستنتقل ما بين الرؤية الأميركية والواقع السياسي والحزبي اليميني في إسرائيل.
حينها فقط يمكننا أن نتحدث عن حل، وعن حلٍ متوازن ومنصف وهو الحل الوحيد الذي نستطيع أن ندافع عنه ونطرحه على الشعب لإقراره.
وحينها فقط ستكون إسرائيل في مواجهة عالم كامل، وهي التي ستتحمل عبء الوقوف في وجه هذا العالم. وفي كلتا الحالتين تكون إسرائيل العدوانية والتوسعية اما قد هزمت أو انها على طريق الهزيمة وبأثمان مضاعفة.


