انتهيت، يوم أوّل أمس، من قراءة كتاب إليوت أبرامز المعنون: "على محك صهيون: إدارة بوش والصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي". صدر الكتاب في كانون الثاني من العام الماضي (2013) عن مطبعة جامعة كامبردج، وأراد له كاتبه، الذي شغل وظائف مهمة في مجلس الأمن القومي الأميركي، أن يكون شهادة عن السياسة الأميركية، إزاء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، في زمن الرئيس بوش الابن، ومحاولة لتفسير أسباب الفشل في التوصل إلى حل بين الجانبين.
عشتُ، كغيري، أحداث تلك الفترة، التي شهدت اندلاع الانتفاضة الثانية، وصعود نجم شارون (الذي يبدو أن الموت يسحبه من الغيبوبة الآن) في إسرائيل، واجتياح المدن في الضفة الغربية، وحصار المقاطعة، والرئيس عرفات. ويُضاف إلى هذا كله النشاط السياسي والدبلوماسي، الذي شهدته رام الله، بعثات ميتشل وزيني، وزيارات كولن باول، وزير الخارجية الأميركي إلى المنطقة.
المهم في هذا كله، أن أبرامز، الذي يعرّف نفسه بالمحافظ الجديد، يسلط الضوء على كل ما سبق، منظوراً إليه بعيون أميركية. والأهم من هذا وذاك، يُسلّط الضوء على الصراع بين أجنحة مختلفة داخل الإدارة الأميركية، تتبنى وجهات نظر متضاربة إزاء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وقد كانت الغلبة فيها لجناح المحافظين الجدد.
لم يأت بوش الابن، حسب رواية أبرامز، إلى سدة الحكم، بتصورات مسبقة، أو محددة، تخص السياسة الخارجية للولايات المتحدة. كان الشيء الوحيد، الذي انطبع في ذهنه، وأثر على خياراته السياسية في وقت لاحق، تحذير بيل كلينتون، يوم انتهاء ولايته، من ياسر عرفات، باعتباره غير جدير بالثقة.
وفي هذا الصدد، يقول أبرامز إن تحفظات كلينتون على عرفات، كانت تبدو في نظر مستمعيه، وكأنها نوع من المس العُصابي، فقد كان شديد الانفعال، والغضب، وروى لكل من أراد الاستماع تفاصيل آخر حديث دار بينه وبين عرفات، الذي قال له: أنت رجل عظيم، فرد عليه: أيها الرئيس عرفات، لستُ عظيماً، أنا فاشل، وأنت السبب.
ومن الواضح أن غضب كلينتون، وتحذيره تركا انطباعاً قوياً لدى بوش الابن، الذي قرر مقاطعة عرفات، باعتباره غير جدير بالثقة، ولا يريد السلام، وفي وقت لاحق أصابه ما يشبه المس العُصابي، فأغلق أبواب البيت الأبيض في وجهه (بعد 13 زيارة في عهد كلينتون) وأصبحت إزاحته من أولويات الرئيس الأميركي، ومحوراً من محاور السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
عندما جاء بوش الابن، إلى البيت الأبيض، كان خياره الأوّل عدم التدخل الجدي في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وكان يشاركه الرأي نائبه ديك تشيني، والبنتاغون، ومجلس الأمن القومي، وكان هذا يتعارض مع خيارات كولن باول، وزير الخارجية. لذا، نشأ صراع مكتوم بين البيت الأبيض من ناحية، والخارجية من ناحية ثانية، وانتهى بتحييد باول، وإخراجه من اللعبة.
لذلك، وفي كل زياراته إلى المقاطعة، في رام الله، لم يكن باول مكلفاً، بالمعنى الحقيقي للكلمة، بالبحث عن حل، ولم يكن لديه ما يقدمه للفلسطينيين، سوى منحهم الإحساس بأن الولايات المتحدة لم تنفض يدها من المفاوضات. وقد بدا، في شهادة أبرامز، شخصية تراجيدية تماماً.
والواقع أن تحوّلات مهمة طرأت على تفكير المقيم الجديد في البيت الأبيض، ومن بينها أن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي لا يمثل القضية المركزية في الشرق الأوسط، وحتى في العلاقة مع العالم العربي. كما أن إسرائيل القوية هي القادرة على تحقيق السلام، بينما تُسهم كل محاولة أميركية للضغط على حكومتها (كما جرى في عهد الرئيس جورج بوش الأب) في إضعافها.
وإلى هذا كله، أضاف بوش الابن معادلة أن الأمن يحقق السلام لإسرائيل، خلافاً للرأي السائد، الذي ردده مسؤولون سابقون في الإدارة الأميركية، عن حاجة إسرائيل للسلام كضمانة لأمنها. وبالتالي، أصبح أمن إسرائيل ممراً إجبارياً في نظرته إلى سبل البحث عن حل لإنهاء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ووجدت مرافعات شارون الأمنية، وسياسته الهجومية، تفهماً وآذاناً صاغية في البيت الأبيض، ومجلس الأمن القومي.
لذلك، لم تحتل المسألة الفلسطينية مكانة تستحق الذكر، في ذهن الرئيس الأميركي، ونائبه، وكبار المسؤولين في مجلس الأمن القومي، إلا في سياق التحضير لغزو العراق، وبناء على إصرار من كولن باول، ووزارة الخارجية، التي أصرت على ضرورة إرضاء العرب، بعد تحطيم الشرق الأوسط.
تحطيم الشرق الأوسط، هي الكلمة التي استخدمتها كوندليزا رايس، في أوّل اجتماع مع كبار مساعديها، بعد احتلال العراق. قالت لهم: اليوم حطمنا الشرق الأوسط، في هذه الحرب، وعلينا الآن أن نبيّن للعالم كيف نعيد تركيبه.
في سياق الموضوع العراقي، إذاً، تبلورت ملامح سياسة أميركية إزاء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بعد وصول جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض بسبعة عشر شهراً، ودخلت رؤية الرئيس بوش لحل الدولتين قيد التداول السياسي، بصرف النظر عن مدى استعداده لتحقيقها على الأرض.
نعرف أن الولايات المتحدة لم تتمكن من لملمة الشرق الأوسط، بعد تحطيمه. وهذه الخلاصة ليست مهمة في الوقت الحاضر. ولا تهم، أيضاً، الأخطاء التي ارتكبها الفلسطينيون في زمن الانتفاضة الثانية، وصبت الماء في طاحونة شارون والمحافظين الجدد.
المهم: هل يملك الوزير كيري تفويضاً حقيقياً، يحظى بالإجماع، لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، أم أن محاولاته تعتبر امتداداً طبيعياً للخط التقليدي في وزارة الخارجية الأميركية؟ ثمة أسئلة وعلامات استفهام، بطبيعة الحال، ولكن مسألة توفر التفويض، والإجماع، هما مربط الفرس، إذا أردنا الكلام عن فرص النجاح أو الفشل.


