لا أنصحنا نحن الفلسطينيين في الإطار الفصائلي السياسي الجمعي كما الإعلامي في مستهل هذا العام الجديد - كل عام وانتم بخير - أن ننزلق أو ننجر للانخراط في استقطاب الأزمة المصرية الحاصل، أو أن نكون صدى لتداعياته على نحو ساذج.
فمصر المحروسة سلمها الله من كل شر أو مكروه، لم تعد للأسف منذ وفاة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وكذا رحيل السيدة أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ورياض السنباطي والشيخ زكريا أحمد، كما شيخ الأزهر محمود شلتوت، وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعباقرة كثر آخرين، تقدم لنا وللعالم العربي ككل أي إشعاع ثقافي إو فكري إو سياسي يليق بدورها ومكانتها، باعتبارها الأخ الكبير كما بوليصة التأمين، وصولا إلى أن نرى اليوم ونشهد بأم العين كيف أن الشعب الذي قدم للبشرية جميعا اختراع الدولة، يواجه محك الحقيقة للسنة الثالثة في امتحان الدولة.
وأجدني اليوم مضطرا لإعادة التذكير بأنني تطرقت إلى هذه المسألة تحديدا، في مستهل ذروة الأزمة المصرية الحاسمة يوم 30 حزيران العام الماضي، بالإشارة إلى هذا الاختبار الكبير، الذي عنوانه يكتب على الحائط أي الدولة.
وكانت مقاربتي للأزمة المستقاة من تجارب التاريخ تضع احتمالين للصراع الجاري: إما بروز زعيم كارزمي يكون بمثابة المنقذ والمخلص، أو انتصار تيار أيدلوجي سياسي يملك أغلبية كاسحة.
وان انسداد الأفق أمام هذين الاحتمالين كما حدث في الثورتين الفرنسية والمصرية، فانه يطرح معادلاً ثالثاً والذي يتمثل بصعود الجنرال بونوشيت في التجربة التشيلية، لأنه ما كان للشيوعيين بقيادة سلفادور ألندي، أن يحكموا في الحديقة الخلفية لأميركا في ذروة الحرب الباردة.
وفي النسخة المصرية الجنرال عبد الفتاح السيسي لأنه ما كان "لجمهورية الضباط" كما سماها يزيد صايغ، أن تسلم مقاليد حكم مصر لتيار الإخوان المسلمين.
هذا صراع على السلطة إذن بين القوتين الرئيستين الوازنتين، والاكثر تنظيما وتماسكا في البلد، بين النواة الصلبة لثورة 25 يناير وبين النواة الصلبة لما تسمي الدولة العميقة.
وهو بهذا المعنى ينطوي في الإسقاط التاريخي على توصيفه بالصراع الذي يعقب الثورات غالبا بين الثورة والثورة المضادة، ولكن ما حدث في مصر هو تجربة شهدنا نموذجاً مماثلاً لها في غزة وان يكن على نحو مصغر.
إن الخطأ القاتل، الدرس القاسي هنا وهناك، وهو ما يمكن تسميته انعدام الانتظار والصبر بأن يقوم التاريخ من تلقاء ذاته بإطلاق حكمه والعمل بدلاً من ذلك، أي بدلا من اعتماد الصبر التاريخي أو الاستراتيجي، على استدعاء هذا الحكم بالإنابة عن التاريخ نفسه بل وبديلا عنه.
"لنعطهم الفرصة أن يحكموا ولندع التاريخ يحكم عليهم".
كتبت هنا في عنوان واضح محذرا عند مستهل الأزمة بين فتح وحماس في غزة، بعد فوز حماس الكاسح في الانتخابات.
ورأيت أن حماس التي لم تكن لها تجربة أو خبرة سابقة في الحكم، يمكن أن تكون قوة مقاومة مسلحة جديرة بالإعجاب والتقدير، أو قوة حزبية عالية القدرة على التعبئة والتنظيم ولكنها قوة كبيرة من دون زعامة كارزمية، فاقدة للخبرة السياسية.
وهي ما زالت من الناحية العملية مثل باقي الحركات السياسية الأيديولوجية المشابهة، في طور البراءة والعذرية أو ما يمكن أن نطلق عليه السذاجة، وربما اعتبر البعض أن هذا دفاع عن حماس وهو لم يكن كذلك، وانما محاوله لتبصير القادة بما لا ينبغي عليهم الإقدام عليه من أخطاء، فإن ما حدث هو أن حماس التي تحولت فيما بعد إلى أن تصبح لاعبا في السلطة، على طريقة البيضة والحجر هي الأخرى استقلت بحكم غزة للسنة السابعة وكل عام وانتم بخير.
والذي يحدث في مصر اليوم حتى لا نقع في الأوهام وتضليل الناس، مجددا هو الفيلم نفسه.
وأجدني مجدداً التذكير بأنني استخدمت العبارة نفسها هنا، بُعَيد الانقلاب في مصر.
لقد كان حكم الإخوان ومحمد مرسي في مصر يترنح وشعبية الإخوان المسلمين هناك في الحضيض تقريبا، حتى جاء الجنرال السيسي بانقلابه، ليحيي قوة هذا التيار من جديد ويعاظم من قوته.
إن الدرس هنا واحد ولكن باختلاف الاداة، أداة الحسم كتائب عز الدين القسام في نموذج الصراع على السلطة في غزة، والقدرة على التعبئة في الحشود الشعبية في الشارع في مصر المحروسة.
لم يحسم الصراع المصري الداخلي أيها الإخوة المحترمون حتى نسارع مرة أخرى لأن نكون صدى ساذجا، لإسقاط ما يجري هناك علينا هنا في الداخل.
وخيراً نفعل أن نرحم أنفسنا. وأرى كمقترح فيما يلي الخطوط السياسية والإعلامية التي يمكن أن تؤطر موقفنا الجماعي العام إزاء مقاربتنا أو تفاعلنا مع الأزمة المصرية، وهي أزمة كبيرة لا ينبغي تجاهلها ولكن لا ينبغي التورط أو التدخل فيها:
1 - المسألة الأولى هي إعادة التأكيد أو التمسك بمذهب عرفات في هذا الصدد، أي فيما يخص تحديد التخوم في العلاقات السياسية الفلسطينية، بين ما هو سياسة فلسطينية في الداخل وبين ماهي علاقات مع الأطراف الخارجية، سواء أكان هؤلاء الأطراف الخارجيين في الإقليم أم في العالم أم اسرائيل بالطبع.
وهذا يعني إذا كنا نرفع شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للعرب والآخرين، فإنه وهذا هو الوجه الآخر لهذه السياسة، عدم السماح أو القبول تحت أي ظرف كان لطرف آخر التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي، وقد كان هذا هو موقف عرفات زمن الانقسام الفلسطيني بين فتح وجبهة الرفض، كما كان هذا موقفه في مواجهة اسحق رابين ومادلين أولبرايت اعتبار حماس حركة إرهابية وعدوة للشعب الفلسطيني.
كما كان هذا هو موقف جورج حبش ونايف حواتمة أثناء حرب المخيمات في لبنان مع فتح وياسر عرفات، رغم خصومتيهما السياسية معه.
وهو ما استدعى عرفات أن يصف جورج حبش بأنه ضمير الثورة الفلسطينية.
2 - إن محك الحقيقة والموقف السياسي العام من أي نظام يحكم مصر هو بقدر موقفه الحقيقي من شقاء الفلسطينيين ومعاناتهم، أو كما يقال: "هنا رودس فلنقفز هنا".
أي هنا الحصار الذي يفاقم وضع الغزيين وهم جزء من الشعب الفلسطيني فلنر الآن ولسنا نطالب الاحتذاء بعبد الناصر في الدفاع عن الأمن القومي العربي سواء في سورية أو فلسطين، وتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك.
3 - في زمن الحرب والأوقات الصعبة كما نعيش اليوم حيث يفاوض أبو مازن وحيدا، وتتعرض غزة للحصار والتهديد بالحرب، الكف عن الثرثرة والكلام الفارغ.
فإن كنا غير قادرين على المصالحة واستعادة سفينة نجاتنا الوحيدة والمشتركة أي وحدتنا، فعلى الأقل أن نتوقف عن التراشق بالكلام.
وإذا كانت فتح سوف تظل هي أم الوطنية أم الصبي، فإن حماس ليست نبتة غريبة أو شيطانية وإنما هي جزء من النسيج الوطني الفلسطيني العام، علينا أن نحاورها نختلف معها أو ننتقدها ولكن يجب البحث بالأخير عن تفاهم واتفاق معها، ومحك الحقيقة بالنسبة للأطراف الخارجية هو مساعدتنا على التوصل إلى هذه التفاهمات، لا تصدير بذرة الانشقاقات إلينا.
4- وهنا مسألة أخيرة في إطار المراجعة إذا كانت حماس أخطأت في التلكؤ بمد اليد لأبو مازن في زمن صعود الإخوان في مصر، فحذار اليوم من التردد بمد اليد إلى حماس لإعادتها وعودتنا جميعا مجددا تحت خيمة النظام الفلسطيني الواحد، فهذه أيضا لعلها لحظة مواتية لأن يتعلم الجميع الدرس.
جميعنا في المركب الواحد وجميعنا في المأزق وجميعنا في قلب العاصفة، وغرق الواحد منا غرقنا جميعا، وهيا بعيدا عن الثرثرات نحاول إنقاذ شعبنا.
5- المبادرات الإيجابية المشتركة، ثم المبادرات الإيجابية المشتركة هذا هو الاتجاه الذي يقرب المصالحة على أرض الواقع، وحسنا أشعلت فتح شعلة انطلاقتها في هذا الحشد في ساحة الجندي المجهول في غزة بموافقة حماس كما فعلت العام الماضي السماح بإقامة المهرجان الكبير.
وأظنها أنها ما زالت مناسبة للتلاقي بتبادل هذه المبادرات الطيبة واستكمالها بعقد المهرجان بحضور الرئيس أبو مازن هنا في غزة الذي رأيت في مستهل الأزمة وما أزال أنه بصفته التمثيلية رئيس كل الفلسطينيين هو الحل لهذه العقدة.
وهو المطلوب منه أن ينفس احتقانها ويقي الفلسطينيين شرها.
a


