يقال دائما أن الدخول في الحرب أسهل من الخروج منها ، لأنه من السهل إتخاذ قرار الحرب، والأصعب منه إتخاذ قرار السلام . هذا القول ينطبق إلى حد بعيد على المفاوضات بالقول من السهل الدخول في المفاوضات ، ولكمن ألأصعب الخروج منها ، لأن الفشل له خيارات قد لا يقوى علي مواجتها لا الفلسطينيين ولا الإسرائيليين ، ولا حتى الدولة الراعية لها وهى الولايات المتحدة . والسؤال هنا من يتحمل فشل المفاوضات؟ ومن يملك القدرة على تحمل تبعات الذهاب لخيارات الحرب والمواجهة العسكرية .
وبعد زيارات متعددة قام به جون كيرى نجح اولا في إستئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد إنقطاع دام اكثر من ثلاث سنوات ، والأن يعود من جديد في زيارته العاشرة حاملا معه إطارا عاما للمفاوضات ، وبقدر من التفاؤل بإمكانية الوصول إلى تسوية تفاوضية والتوقيع على الإطار المقترح الذي قد يحكم العلاقة بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى لوضع حلول نهائية للقضايا الرئيسة التي تحكم الصراع. ويعتمد جون كيرى علي نهجين: ألأول ما يسمى بنهج الحوافز الإقتصادية الكبيرة التى يوعد بها الفلسطينيون لتنقلهم من حياة المعاناة الدائمة إلى أفضل إقتصاديا ، وهذه السياسة ايضا مقدمه لإسرائيل . والنهج الثانى والأهم وهو ما يسمى بنظرية الغموض الخلاق. وهذه العبارة او النظرية تنسب لوزير الخارجية ألأمريكى جون بيكر الذي قاد المفاوضات في مؤتمر مدريد 1991، في أعقاب حرب الخليج الثانية وتراجع القضية الفلسطينية كقضية أمن عربى ، وبداية التحول في موازين القوى لصالح قوى إقليمية وليس عربية ، وقتها كانت الفرصة سانحة لعقد هذا المؤتمر رغم التحديات والصعوبات التي واجهتها ، وقد تكون أصعب بكثير من الوضع التفاوضى الحالى .
وبناء على هذه النظرية نجح بيكر في حل إشكالية تشكيل الوفد الفلسطينى وتمثيله في المؤتمر حيث رفضت إسرائيل أن يكون له تمثيلا مستقلا ، فتم حل هذه ألإشكالية من خلال الوفد ألأردنى .وبعد عامين من المفاوضات وما يقارب 11 جولة توصل الطرفان إلى إتفاق أوسلو الذي يعتبر ثمرة نظرية الغموض الخلاق، فإتفاقية إوسلو نموذجا لها ، فتتسم بقدر من الغموض، ويمكن لكل طرف إن يفسر بنودها كما يرى ، لإنها إتسمت بالعمومية دون التفاصيل، وتمت إحالة كثير من القضايا الرئيسة إلى مراحل لا حقة ، وما زالت حتى ألأن دون حل .
هذا المنهج قد يبدو ملائما في بدايات المرحلة ألأولى من المفاوضات ، والسؤال هل ما زال هذا المنهج صالحا للتطبيق ألأن بهدف الوصول إلى إطار عام للمفاوضات ، ومن ثم الدوران من جديد في دائرة حلزونية من المفاوضات ؟ وزير الخارجية كيرى يعتمد على نفس المنهج ، بتقديم حزمة من الحوافز ، ومستفيدا من التراث التفاوضى السابق، ولا يمكن له تجاوز العديد من التفاهمات التي تم التوصل إليها بين الطرفين وخصوصا تصورات الرئيس السابق كلينتون، والتفاهمات التي تم التوصل إليها في زمن حكومة أولمرت وليفنى ، إلا أن المفاوضات هذه المرة تتم في ظل بيئة تفاوضية جديدة ، وفى ظل تحولات في موازين القوى ، وفى ظل تراجع واضح للقضية الفلسطينية ، وفى ظل إنقسام سياسى فلسطينى ، وفى ظل حكومة إسرائيلية متشددة ويحكم إئتلافها أحزابا إستيطانية ، وقوى عسكرية ترفض التسليم بقيام الدولة الفلسطينية ، والإنسحاب من الأراضى الفلسطينية كمنطقة غور الأردن ، لكن في لوقت ذاته توجد تحولات تعمل لصالح القضية الفلسطينية ، فالقناعات الدولية تتزايد المؤيدة لقيام دولة فلسطينية كاملة العضوية في ألألمم المتحدة ، وفى الوقت ذاته فإذا لم يكسب الفلسطينيون من المفاوضات لن يخسروا شيئا ، لكن خسارة إسرائيل ستكون أكبر ، وهذا ما ينبغى التاكيد عليه ، في هذه الأجواء تأتى مبادرة جون كيرى والدور الأمريكى في السنة قبل ألأخيرة لنهاية الرئاسة ألأمريكية ، وأعتقد إن جون كيرى يدرك حجم المشاكل ولتحديات ، وحجم الهوة بين الموقفين الفلسطينى والإسرائيلى بسبب تحديات الحدود وألأمن ، ومطالبة إسرائيل الفلسطينيين بالإعنتراف بيهودية إسرائيل .
وهذا النهج الذي يقدمه كيرى وإن كان أمتدادا لتصور من سبقه ، لكن لا شك توجد تصورات وتراث وتفاهمات تفاوضية لا يمكن تجاهلها ،وهو هنا يعتمد على نفس النهج في الغموض الخلاق فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية والإنسحاب لحدود 1967، وفيما يتعلق بمبدا تبادل الأراضى ، والضمانات ألأمنية ، وهنا قد يقدم تصورا أوسع واشمل للموقف الأمريكى ، وفى هذا تطور إلى حد ما مقارنة بالمواقف الأمريكية السابقة .هذا النهج في حد ذاته كن سبببا وراء عدم نجاح إتفاقات أوسلو ،وبعد اكثر من ستة عشر من لمفاوضات لا تحتاج المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية إلى غموض خلاق بقدر ما تحتاج إلى دور امريكى أكثر فعالية وإنغماسا في العملية التفاوضية ، والتخلى عن نهج الغموض الخلاق ونهج إدارة الصراع وليس حله ، والتقدم خطوة متقدمة بتطبيق إطار يحقق التوازن بين ألأمن والعدالة . ورؤية حل يقوم على الإبداع والوضوح لا الغموض.
drnagish@gmail.com


