المكان- تونس..الزمان- سبعينيات القرن الماضي.. بعد انفراد الحبيب بورقيبة بالسلطة إثر إلغائه تعدد الأحزاب العام 1962، وفشل سياساته الاقتصادية، قوى اليسار ومعها القوميون العرب يصعدون نضالهم السياسي ويتمكنون من السيطرة على الاتحاد العام للشغل وعلى الاتحاد العام للطلبة..الإضرابات العمالية والتظاهرات الطلابية تتسع.. الخوف يتملك بورقيبة فيقرر أن يغض النظر عن عدوه "الإسلامي" ممثلاً في الجماعة الإسلامية التي يرأسها راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو.. "الجماعة" تقرر أن الخطر الأكبر مصدره الحركات اليسارية والقومية "الكافرة" التي لو تمكنت من السلطة فإنها ستقوم بتغيير "هوية" تونس الثقافية أكثر بكثير مما فعله النظام "العلماني".. سهامها توجه لهم لدرجة أنها لا ترى في الخميس الأسود (26 كانون الثاني 1978) وهو اليوم الذي تم سحق إضراب الاتحاد العام للشغل بقتل 140 مواطنا تونسيا وجرح وسجن المئات غيرهم، غير محاولة من هذه القوى للسيطرة على الحكم.
الزمان- ثمانينيات القرن الماضي.. بورقيبة يتمكن من إضعاف اليسار والقوميين لكنه لا يكافئ الإسلاميين على تسهيل مهمته ويبدأ باستهدافهم.. حركة الاتجاه الإسلامي التي أسسها الغنوشي لا تحصل على ترخيص للعمل..الاعتقالات تستهدف رموزهم بذريعة قيامهم بأعمال إرهابية استهدفت أربعة فنادق.. الضائقة الاقتصادية وسياسة استهداف الجميع والصراع داخل السلطة على الحكم لا تكفي كأسباب لوضع الصراع الأيديولوجي جانباً وتستمر القوى الإسلامية واليسارية في صراع عبثي على "هوية" مسقطة عليهم بفعل الولادة.. الصراع على السلطة يحسمه بن علي بانقلاب "طبي" العام 1987 (هكذا "طبي" في سابقة لم يعرفها جنرالات العسكر من قبل).. بلا شرعيه، وبمشاركته في أعمال التحقيق والتعذيب للمعارضين بصفته مديراً للأمن بعد انتفاضة الخبز العام 1984، يقرر بن علي إعلان تعددية سياسية.. يقوم بالإفراج عن المعتقلين ويضع ميثاقا وطنيا وقانون أحزاب يجعله وصياً على "الديمقراطية" الموعودة. قلة من الأحزاب اليسارية والقومية ترفض الخديعة، لكن غالبية اليسار ومعهم الإسلاميون يوقعون على ميثاق بن علي "الوطني."
الزمان- تسعينيات القرن الماضي-حركة الاتجاه الإسلامي تصبح حركة النهضة ولكنها تستثنى من الحق بالحصول على رخصه للعمل الحزبي.. رغم ذلك وبقوائم مستقلة تتمكن من حصد سبعة عشر بالمائة من أصوات الناخبين للبرلمان العام 1989..بن علي يلغي نتائج الانتخابات ويمكن حزبه من البرلمان.. بعد سنتين يعلن أن "النهضة" تنظيم إرهابي يخطط للإطاحة بحكمه بالقوة.. يتم اعتقال الآلاف وقتل العشرات ويغادر البلاد تحت جنح الظلام الآلاف غيرهم هرباً من القتل أو الاعتقال.. أغلبية القوى اليسارية والقومية تصمت عن عملية قمع لم تشهدها تونس في السابق وتكافئ بعشرين في المائة من مقاعد البرلمان يستثنى منها الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يرفض سياسات بن علي .. القوى الأكثر جذرية في اليسار تعلن بأن الصراع بين السلطة والإسلاميين هو معركة بين فاشيتين لا مصلحة للشعب التونسي فيها.. هذا الموقف لم يجنبها بطش السلطة وقياداتها تعتقل أو تختفي خوفاً من القمع.. سلطة بن علي تسيطر على مؤسسات المجتمع المدني وتنهي ما تبقى من فضاء عام.
الزمان- العقد الأول من القرن الجديد- حزب العمال الشيوعي يراجع سياساته ويعلن بأن صراعه الأيديولوجي مع "النهضة" جاء على حساب صراعه مع النظام وأن الأولوية يجب أن تكون للصراع الثاني لا للأول.. "النهضة" تراجع سياساتها وتتبنى مفهوم "مقاصد الشريعة" بدلاً من نصوصها.. أحزاب المؤتمر والتكتل والتقدمي والشيوعي والنهضة تجتمع للاتفاق على مفهوم النظام الديمقراطي وتعلن بعد سلسلة حوارات عن قيام ائتلاف موحد للدفاع عن الحقوق والحريات السياسية (ائتلاف 18 أكتوبر 2005).. وكأنه إعلان بداية العد العكسي لسقوط النظام..قوى شبابية جديدة تظهر في الساحة لا يهمها صراع الأيديولوجيات القائم على الهوية الفكرية وتعمل مع الجميع يساريين وقوميين وإسلاميين لتوجيه الصراع نحو النظام.. مئات الاعتصامات وإضرابات الجوع والتظاهرات يجري تنظيمها على خلفيات اجتماعية.. الصراع ينتقل من مكاتب الأحزاب والندوات والمطبوعات السرية الى الشارع وينتهي بثورة يهرب على إثرها الديكتاتور، وتنتقل بسرعة فائقة الى غالبية بلدان العالم العربي وكأنها تؤكد بأن ما يجمع العرب أكبر بكثير مما يفرقهم.. العرب يرفعون رؤوسهم لأول مرة في تاريخهم الحديث في مشهد يكسبهم احترام العالم أجمع.
الزمان- مرحلة ما بعد الثورة..وكأنها لحظة عابرة فرضت عليهم بالإكراه.. الخوف من الإسلاميين يعود ليصبح هاجساً ملازماً لغالبية قوى اليسار.. النهضة تعود لتجعل من صراع "الهوية" مشكلتها الأولى.. قضايا العدالة الاجتماعية وإنهاء سياسات التهميش التي حركت الشارع وكانت عنوان وحدته في الصراع مع النظام القديم تختفي من أجندة الأحزاب المعارضة.. اليسار يهرب باتجاه ما تبقى من النظام القديم لتدعيم صفوفه.. الإسلاميون يصدرون شهادات البراءة لمن والاهم من النظام القديم والإدانة لمن يعارضهم منه.. طرفا الصراع يعيدان النظام القديم على حساب حقهم هم في السلطة وعلى حساب حق شعبهم في تحقيق أهدافه.. وكأن ثورة لم تقم.. وكأن خمسة عقود من القمع لم تكن كافية لإعلاء قيمتي العدالة الاجتماعية والحرية التي حصلوا عليها بدماء المئات.


