لم أفاجأ شخصياً من انحياز تنظيمات يسارية بشكل صريح أو موارب للنظام الأسدي، ولا بدفاعها المعلن الرسمي أو شبه الرسمي عن النظام، ولا برفع ونشر صور بشار الأسد، وشعار الولاء الأبدي له، إضافة لصور حسن نصر الله.
ولم أصدم من رد الرفيق تيسير الزبري على مقالتي بعنوان "بين بيتهوفن وفيروز" في مقالة وضعت النقاط على الحروف في الانحياز للنظام وحلفه "المقدس"، وكانت بعنوان "هل ارتكبت فيروز الإثم حين أعلنت حبها"؟.
لا غرابة في كل ذلك، فالانحياز لنظام الأسد الابن هو امتداد لانحيازات سابقة لنظام صدام حسين ومعمر القذافي والأسد الأب وغيرهم. لكنني ما أزال مصدوماً من غياب أي نوع من الحساسية والتضامن مع معاناة الشعب السوري، الذي تعرض لقصف الطيران الحربي بالصواريخ والبراميل المتفجرة، وتعرض لصواريخ سكود المدمرة وللسلاح الكيماوي.
الغريب هو إنكار مأساة وعذابات شعب تؤكد كافة التقارير المحايدة انه يتعرض لجرائم حرب وبخاصة جريمة السلاح الكيماوي، وجريمة تهجير 6 ملايين وجريمة قتل 120 ألفاً واعتقال 150 ألفاً إلى غير ذلك. والغريب كل الغرابة الصمت على محنة المخيمات الفلسطينية في سورية، على حصار مخيم اليرموك الذي بدأ سكانه بالموت جوعاً وبأعداد متصاعدة. لا يوجد احتجاج على موت 105 فلسطينيين تحت التعذيب كان آخرهم الفنان الشاب حسان حسان، لا سؤال عن 2000 مفقود فلسطيني لا يعرف مصيرهم، ولا سؤال عن إعادة تشريد أكثر من 70% من سكان المخيمات داخل وخارج سورية.
كيف يمكن تفسير تضامنكم مع نظام صنع النسبة العظمى من مأساة السوريين واللاجئين الفلسطينيين، وعدم تحسسكم لمحنة أبناء جلدتكم في المخيمات ومعهم أبناء الشعب السوري الشركاء الأكبر في الثورة وفي احتضان اللاجئين؟ إذا كنتم تتجاهلون مسؤولية النظام عن الجرائم، لماذا تتجاهلون الضحايا على اقل تقدير؟ لم يحتمل الرفيق تيسير الهجوم على النظام وحلفائه، ما دفعه للرد السريع. لكنه صمت طول الوقت ولم يوجه نقداً للنظام الذي يقتل ويشرد، ولم يتضامن مع الضحايا، بالعكس تغنى بأسباب النجاح التي أفشلت الرهان على سقوط النظام وهي صمود "السوريين" وبالدعم والمساندة من إيران وروسيا والصين، واغلب دول أميركا اللاتينية والأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني ومن كافة قوى التقدم في العالم".
ثمة مشكلة هنا في المعلومات التي اعتمدها الرفيق، فالنص يوحي بأن النظام يحظى بتأييد عالمي كبير جداً، لكننا إذا دققنا في التصويت على 4 قرارات صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنجد أن المؤيدين للنظام الأسدي في القرارات الأربعة التي جرى التصويت عليها، هم 12 دولة في كل مرة من بينها 5 دول من أميركا اللاتينية، بينما تدين أكثرية دول العالم النظام وتحمله المسؤولية عن مأساة الشعب السوري.
أما تأييد الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، هل المقصود العشرات وجلهم أقل من ألف في أراضي فلسطين التاريخية. المشكلة في الموقف أن له صلة بحقيقة الفكر والثقافة السائدين في معظم تنظيمات ونخب اليسار. ثقافة أدت إلى التباس الهوية اليسارية والثقافة التقدمية التنويرية، وقادت إلى الاختلاط بالثقافة الرجعية السائدة، وبالثقافة الشعبوية الرائجة. بفعل ذلك لا يمكن التفريق بين يساري وبعثي وإسلاموي وفتحاوي. لا تستطيع التمييز بين هؤلاء في الخطاب والممارسة وفي القضايا الاجتماعية.
كان مبرر اليسار هو ربط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي والتحرر من الاستبداد.، ووعد اليسار الذي اتسم مناضلوه بالشجاعة والصدق بأن يكون أميناً على رسالته، وقدم التضحيات في سبيل ذلك، وظلت رموزه مشاعل تضيء الحرية، أخص بالذكر: فهد ورفاقه في العراق، والشفيع ومحجوب في السودان، وفرج الله الحلو وحسين مروة ومهدي عامل في لبنان وسورية، وغسان كنفاني وتوفيق زياد ومعين بسيسو وعمر القاسم في فلسطين.
كانت نقطة الالتقاء التاريخية بين ثوار فلسطين الذين تصدوا لمهمة تحرير وطنهم مع مناضلين عرب مغيبين ومقهورين على يد أنظمة مستبدة، هي البحث المزدوج عن التحرير والحرية، لم تكن حرية الشعوب مسألة فائضة عن حاجتها، فقد كان سبب الهزيمة الحزيرانية الذي استخلصه الفكر الثوري الجديد هو إقصاء الشعوب عن الصراع وإخضاعها بالقمع، وأصبح شعار الحريات الديمقراطية في المقدمة بعد أن تهافت منطق حالة الطوارئ، الذي استبقته الأنظمة رغم هزيمتها المخزية. لكن نهوض النخب الثورية العربية الذي ترافق مع اندلاع الثورة الفلسطينية سرعان ما خبا بالترافق مع الهزائم التي لحقت بالمقاومة وانفصال الأخيرة عن الشعوب وقواها الديمقراطية لمصلحة علاقات تحالف وتعاون مع الأنظمة.
جاءت ثورة الشعوب لتقطع مع الأنظمة المستبدة الشمولية الفاسدة، وبدأ مسار التحرر المحفوف بالتدخلات الخارجية وبخلط الأوراق الداخلية. وفي هذا السياق رفض اليسار انتفاضة الشعب السوري السلمية المشروعة بمطالبها وأدواتها الديمقراطية، وتبنى رواية النظام عن وجود مؤامرة خارجية، والتزم الصمت إزاء الحل الأمني الدموي الذي اعتمده النظام، وقد أدى القمع العنيف إلى تقدم أكثر المكونات تشدداً وتعصباً وجنوناً في المجتمع السوري إلى الصدارة، وفتح المجال أمام التدخلات الخارجية.
بل لقد ساهم النظام بوصول الأصولية المتطرفة إلى الواجهة سواء عبر قمعه الشديد للاحتجاجات السلمية أو عبر إخلاء سبيل مئات من الأصوليين المتطرفين، ليبرر استخدامه الوحشي لكافة أنواع الأسلحة؟ وعوضاً عن ممارسة اليسار الضغط على النظام للعدول عن الحل الأمني والاستجابة لمطالب الشعب، التزم اليسار بمواقف النظام، وكان المبرر الوحيد هو "دعم النظام للمقاومة" واتباعه سياسة ممانعة للسياسة الأميركية. ورغم أن هذا المبرر لا يصمد طويلاً أمام التجربة، يقول تشومسكي المفكر اليساري الأميركي: إسرائيل لم تتصرف بأية طريقة تنم عن أنها تسعى لإسقاط نظام الأسد، ولو كانت أميركا ومعها إسرائيل مهتمة بإسقاط الأسد لفعلت جملة من الإجراءات كحشد قواتها على الحدود، إلا أن هذا المبرر الوطني لا يجيز حتى لنظام ثوري أن يقمع ويكرس سلطة أبدية مستبدة ديكتاتورية وفاسدة. لا يبرر تحويل النظام الجمهوري إلى نظام وراثي عائلي، لا يبرر إفقار الشعب والدوس على كرامته. كم هو موقف قوى اليسار استفزازي وهي تنادي بالعدالة الاجتماعية وتنحاز في الوقت نفسه للقوى التي تدمرها. كم هو موقف غير عقلاني ولا منطقي أن يثور شعب من أجل حريته وتقول له قوى اليسار انت تتآمر على النظام. كم هو بشع أن تقول لشعب ثائر بعد صبره 50 عاماً على الاستبداد لا تفعل ذلك، لأنه توجد مؤامرة وتدخلات وقوى أصولية وإرهاب. ولما كان كل هذا سيبقى موجوداً ما بقيت الإمبريالية على قيد الحياة، فمعنى ذلك أن يبقى الشعب السوري مستعبداً ومقهوراً مدى الحياة. ألا يعني هذه المواقف أن اليسار يتنكر للنظرية وللمبادئ والقيم التحررية؟
لقد طلب مني الرفيق تيسير أن أقرأ تاريخ الحركات الإسلامية التي ثارت على الظلم والفساد في القرنين الثالث والرابع الهجري. أشكره على هذه النصيحة وسأرد إليه الجميل، بدعوته لقراءة الحركات الإسلامية المعاصرة، بعضها تعايش مع الاحتلال 20 عاماً، وبعضها التزم بكامب ديفيد وعلاقات التبعية للأميركان والغرب بعد أن حرمها بإفتاء ديني، وكلها دافعت عن كبار الملاك الإقطاعيين وكبار الرأسماليين (الكومبرادور) الذين صودرت أراضيهم وشركاتهم في مصر وسورية والعراق والجزائر.
اقرأ تجربتهم في الجزائر وغزة والسودان وإيران، ولا تنس تجربتهم في سورية، هؤلاء قدموا نموذجاً للدفاع عن الطبقات الاستغلالية المرتبطة بالاستعمار وبالاحتلال، وأشياء كثيرة تدعو إلى الاستهجان من زاوية معرفية فقط. ليس أقلها الاحتجاج على أن حزب الله طائفي وزعيمه يعلن انه يلتزم الولي الفقيه ويدعو مقاتليه للدفاع عن العتبات المقدسة ومقام السيدة زينب ومقام السيدة رقية، إضافة للدفاع عن نظام بشار الأسد.
Moh


