لا يكاد يمر يوم إلا وأقرأ ما يقول الملحدون واللادينيون في مواقع مختلفة على الشبكة العنكبوتية ؛ وأنا قد اكون على عكس روحانيين مسلمين كثر ؛ لا أحقد على أي من هؤلاء الذين لا يعترفون بوجود خالق أو دين ؛ ولا أكرههم ولا أنفر منهم ولا أتحسس مطلقا من إثارتهم للتساؤل والجدل حول ما أعتبره بحكم تديني مقدسا ..! بل يدهشني أنهم منهمكون في دراسة وتحليل واعادة فهم كل ما يتعلق بموضوع الإله والاديان والمجتمع وتاريخ العقل والأسطورة والتراث !!
لكنهم في الوقت ذاته مصابون بزهو اليقين إزاء ما يطرحون ؛ وتلك نقيصة كل من يثير جدلا ويعتبر ذاته مفكرا ؛ كما أنك تشعر حين تقرأ لهم أنهم موجوعون بهزيمة نفسية ما ، يعزونها هم لإحساسهم بتأخر وتخلف المجتمع وانسحاق القيم وتفشي الخرافة فيه ؛ كما يعيشون انبهارا وذهولا بأنماط ثقافية غريبة ويتمنون لو يفجرونها هنا تفجيرا ؛ دون هوادة ودون مراعاة للشرط الإجتماعي والنفسي والثقافي ومفردات هوية الناس هنا ؛ كما أن معظمهم شعاراتيون عنيفون عندما يصيغون كلاشيهاتهم ؛ وهم إذ يتحجرون خلف ما يقولون فإنهم لا يثرون رؤيتهم بالبديل أو بالجديد ؛ بل ويعتبرون أن نقدهم وتفنيدهم لما هو قائم لا يرتبط او يتلازم أو يوجب عليهم طرح بديل أو تقديم مقترحات ؛ ورغم ما يلوح في خطابهم من نزعة انسانية مقنعة وواضحة ؛ إلا أن سيكلوجية كتاباتهم لا تخلو من الاغتراب والصراخ إحساسا بآلام ذاتية تخص كل صوت منهم على حده ؛ ومعظمهم أيضا يتعاملون مع الوقائع باعتبارها مفاهيم ثقافية مجردة او منفصلة ؛ فالجماهير بالنسبة لهم مثل (س) او (ص) في معادلة رياضية ؛ وليس كيانا ديناميكيا مخربطا يصعب فهمه والتنبؤ بردود فعله ؛ لذلك فإنهم يصدمون بعد كل حملة تجديد و " صدم وعي " كما يعتبرونها ويقومون بها !!
معظم الملحدين واللادينيين ؛ يعيب على المسلمين والمسيحيين والمتدينين ؛ أي همسة تتضمن نقدا لهم أو اعتراضا أو إعلانا عن حساسية مما يطرحونه ؛ لكنهم في الوقت ذاته لا يجدون حرجا ولا غضاضة ولا يخجلون مطلقا من اعتبار الله والأديان والطقوس التعبدية محض خرافات وتراثيات تناقلتها الأجيال والأمم ؛ وكأن ذلك ليس إلغاء لكل من سواهم ؛ وكأن ذلك ليس عدوانية مقيتة قاتلة ؛ إذ ما الذي يبقى مني كمسلم متدين حين تعتبرني مخرفا او محكوما بالأسطورة يا صاح ! إنك ببساطة تقول لي " لا وجود لك " ؛ وبعد ذلك تعتبر مجمل ما يصدر عني من ردود أفعال تأثرية بما قلت عني هو وحشية ورجعية وتخلف .
إنني أرى عذرا للكثير من الملحدين واللادينيين حول العالم ؛ لاسيما في الأعوام الأخيرة ومشاهدة الصراع الديني بين أبناء الدين الواحد وبين دين ودين ؛ لكن هذا لا ينفع إطلاقا أن يكون منطلقا لتسفيه الظاهرة الدينية والموت والاستبسال البحثي دون قيد او شرط ؛ لجعلها خرافة أو أسطورة .. إن الظاهرة الدينية أعمق بكثير مما مورس عليها وما استخدم إزاءها من أدوات دراسة ومناهج بحث ؛ فهي قديمة قدم الانسان نفسه ومليئة بالمتغيرات إلى حد لا يجعل من السهل فهمها وتقييمها وتصنيفها ؛ كما أنه لا يمكن تجاوزها حتى بالعلم .. لاسيما أن العلم والذي يعتبر أرقى واعمق ظاهرة انسانية ملموسة ؛ لايزال عاجزا عن فهم وتفسيرٍ لمجرد من وضعوا أسسه ومناهجه أي الذات الانسانية والباراسيكلوجي مثالا ..
ولست هنا إزاء سجال بين الدين والعلم والإلحاد ؛ فلكل اتجاه مفردات غناه وتفوقه وفقره وانحداره ؛ الأهم بالنسبة لي هنا أن المتدينين وخاصة المسلمين ؛ ليسوا بهذه المسخية التي تتردد عنهم في أدبيات اللادينيين والملحدين ؛ لا أحد فينا او منا يملك عقلا مطلقا او معرفة نهائية ؛ ووجودي هو ملكي أملأه بما أراه وأحسه دون أن أنتظر منك أن تراه وتحسه مثلي ؛ وأنت كذلك .. فليكف الملحدون واللادينيون عما تقترفه ألسنتهم ليل نهار من إلغاء وإعدام ونسخ لكل ما هو ديني !! فالدين ظاهرة أعمق مما تصوره لنا تمرداتنا المتلاحقة علينا !!


