خبر : بحر غزة وجرزيم يجريان فوق كليمنجارو ...بقلم: د. خالد الحروب

الإثنين 30 ديسمبر 2013 08:39 ص / بتوقيت القدس +2GMT
بحر غزة وجرزيم يجريان فوق كليمنجارو ...بقلم: د. خالد الحروب



ساق واحدة فقط تبقت لياسمين ابنة نابلس، وساق واحدة فقط تبقت لمعتصم ابن غزة، هما إرث الانتفاضة الثانية في عمرهما القصير.

كانت السنوات تركض متباهية لتكسو حياة الولدين، وكانت قنابل وحياة قاسية تسابق العمر لتبتر الساقين.
اليوم ياسمين ومعتصم في عمر اليفاعة والمراهقة يجري كل منهما بساق بقيت وأخرى صناعية استنبتت.
بعد اسبوعين من الآن وأكثر قليلا، في السابع عشر من كانون الثاني، سيكون الاثنان قد شرعا بتسلق جبل كليمنجارو، رابع قمم العالم ارتفاعاً. سيتعقبان هاري بطل قصة أرنست همنجواي "ثلوج كليمنجارو" الهائم على وجهه بلا بوصلة وقد فقد معنى الحياة، وصار بلا هدف، فيمسحان بأيديهما الصغيرة عرق جبينه ويهدهدان قلقه ويقدمان له على طبق من امل حجرا مقدسا وغرفة ماء، وبوصلة حياة ومعنى.
هناك فوق القمة الملتهبة من برودة "شيطان البرد" كما يعني اسم الجبل بالسواحلية سيُضرب موعد عشق بين جبل جرزيم وبحر غزة في رحلة السيقان النابتة دعما لحملات إغاثة الاطفال الفلسطينيين المصابين أو المرضى ممن لا يجدون من يساعدهم على استنهاض طرف فقدوه، أو إنهاء مرض استبد بهم.
الخشية الوحيدة في الرحلة هي في إغواء السباحة في الغيم الابيض الذي قد يستحوذ على معتصم ابن البحر وهاويه.
من فوق القمة سيرى تحته البياض الكثيف فائضا بالماء. ستختلف الأمكنة وزوايا النظر.
سينظر إلى القمة تحته، سيقف وياسمين فوق الغيوم كإلهين إغريقيين يمتطيان المطر فيهطل اقداما وسيقانا وايادي تنبض بالدم وتطير عائدة إلى اولاد وبنات في هذه الارض تدمع عيونهم كل صباح لأنهم فقدوها.
تتدرب ياسمين ويتدرب معتصم يوميا على المشي عدة كيلومترات وعلى ظهر كل واحد منهما حمل ثقيل يكافئ حمل التسلق استعداداً لرحلة العمر. قبل الوصول الى القمة عليهما ان يمشيا ثمانين كيلومترا، ثم يتسلقا الجبل المهيب وقمته ذات الكيلومترات الستة.
اهم ما في التحدي هو الوصول الى القمة وعدم التراجع من منتصف الطريق.
سترافقهما ارواح وأدعية وقلوب، وسترافقهما روح طائرة لشاعر جاء معهما وقد انبثق من النقطة التي تتوسط جرزيم وبحر غزة تماما.
بنبوءة الشاعر المُدهشة سطر لهما قبل عشر سنوات، وقبل ان تُبتر سيقانهما، مستقبلهما الجبلي، وكتب عن الحنة التي ستتركها اقدامهما فوق القمة، ويتساقط فوقها الضوء كأنما هم "مرايا ملائكة".
يومها كتب اليراع الرهيف ابراهيم نصر الله: "هناك الكثير ولكنهم ههنا لا يريدون غير الاقل/ جدةً قرب رأس الصغيرة تحكي حكاياتها/ لم تزر ذات يوم طبيبا ولم تتناول دواء/ تدور كزيتونة في السهول وقبل صياح الديوك تشق دروب الامل/ وبصحبتها يضربون المثل/ هناك الكثير .. ولكنهم ههنا لا يريدون غير الاقل: صعود الجبل".
ابراهيم تصير روحة طفلة تطير يوميا ولا تكاد تصبر لتلتحق بالثلوج. يتدرب جسده يوميا على المشي الطويل وحمل اثقال التسلق على الظهر. سيرافق ياسمين ومعتصم ويشد لهما الأحصنة قادمة من زمن جميل لخيول بيضاء.
في المساء يوقد لهما حطبا على بحيرة الغيم ويقرأ لهما شعرا وسيرة ملك في عكا كان يصنع قناديل للبحر.
وفي النهار وهما يصعدان الامل ويغرسان في حنايا الجبل غصن نعنع مع كل توكؤ على عصاتيهما، سيسرد عليهما كيف كان كليمنجارو مُلهما لثوار حرب التحرير في تنزانيا ضد الاستعمار، وكيف قادهم غموضه وكبرياؤه الملتحف بالسماء إلى قيادة شعلة التحرر في القارة كلها.
سيقول لهما: "ذات يوم كتب جوليوس نيريري احد قادة حركة التحرير التنزانية والرئيس الاول لها بعد الاستقلال: "سنوقد شمعة على قمة الجبل لتضيء خارج حدودنا وتعطي الشعوب الامل في وضع يسوده اليأس، الحب في وضع يسوده الكراهية، والاحساس بالكرامة في وضع يسود فيه الإذلال".
كم كانت كلماته اخاذة ذلك القائد وكم نفذت الى قلب التاريخ والمستقبل. كليمنجارو ازداد غموضا وبهاء وطقوسية. صار كالجد الخرافي لا للقارة الشابة وحدها، بل لكل يفاعة الشباب والانعتاق.
تحول من جبل ثلجي يضيع فيه هاري وتلتبس الامور على همنغوي عند التأمل فيه إلى نار مشتعلة بالدفء، الى منارة وسط بحر الغيوم في السماء يستهدي بها المتسلقون نحو الامل، ينفضون اليأس ويدوسونه بسيقانهم الصناعية، يشدهم الى قمته وعد بالحب وموعد عشق يلتقي فيه الجبل والبحر، ومن هناك يرميان الكراهية في هاوية العدم.
ذلك السر الدفين في هذا الشيء الغامض المُسمى "الامل" هو ما دفع مئات المتطوعين لدعم ياسمين ومعتصم في رحلة السيقان النابتة نحو القمة.
هو جزء من جهد ساقه الامل والحب وعوض مئات من الاطفال مثلهما ممن فقدوا اجزاء عزيزة عليهم من اجسادهم، وهو الجهد الذي ينتزع انحناءة تبجيل واجلال.
لكن ياسين ومعتصم سيكونان اول مراهقين يتسلقان الثلج هناك بسيقان اصطناعية.
وسيكونان بطبيعة الحال اول فلسطينيين وعربيين يقومان بذلك.
الجندي الدؤوب وراء الرحلة هي سوزان الهوبي عاشقة اخرى للامل والجبال والقمم، واول عربية وفلسطينية تتسلق قمة إيفريست.
كأنما مسها سحر القمم بعد أن عرفت طعم الغيوم من فوق. صارت تشد الاحصنة وتنافس الشاعر في جلب خيول من بياض الثلج، تجيء بها لبنات وأولاد غرقوا في الدمع والبكاء على اجسادهم التي اقتنصت القنابل اجزاء منها، فتحملهم على ظهور خيول الثلج وتقودهم الى قمة لا بكاء فيها.
في الصور التي توزعها حملة "الصندوق الفلسطيني لإغاثة الطفل" حول مشروع التسلق نحو القمة هناك ست صور تأسر العيون.
صورة لياسمين ومعتصم وهما صغيران وربما في السنة الاولى بعد فقدان سيقانهما، كل منهما على ساق واحدة، فيما الثانية مبتورة. وفي الصورة الثانية كل منهما يقف على ساقين وقفة طبيعية بعد تركيب السيقان الصناعية. في الصورة الخامسة والسادسة نفس اللقطة لكن للطفل السوري محمد جاموس ذي الخمسة عشر عاماً، والذي فقد ساقه نتيجة اصابته بقذيفة مدفعية في قريته في جنوب سورية، والان يعيش في احد مخيمات اللاجئين في الاردن.
كان من المفترض ان يكون محمد ثالث ياسمين ومعتصم لكن ظروفه العائلية دفعته للانسحاب.
المُبهر في مجموعة الصور هو تلك الابتسامات البريئة الطافحة بالأمل. من اين يأتي هذا الشيء الخرافي الغامض المُسمى بالامل لاطفال يقفون على ساق واحدة؟ هل كانت تخبرهم ارواح ذلك الامل السابحة في الكون ان المستقبل يُعد لهم رحلة بديعة فوق الثلوج، يقطعونها بما تبقى لهم من سيقان، والآن يعدون الايام شوقا حتى تبدأ؟
انا ذو الساقين الطبيعيتين اغبطكما على رحلتكما ياسمين ومعتصم.
كم كنت اتمنى لو عرفت عنها في وقت مبكر كي التحق بكما.
كم اتحسر من الآن على فقدان تلك اللحظة التي تصلان فيها إلى القمة، فيستقبلكما هناك همنغوي وهاري وقادة حروب التحرير ومكتشفو المعنى، ثم توقدان حطبا وتشعلان ناراً، ويقرأ عليكما ابراهيم نصر الله تراتيله، ثم تلقيان انتما معاً عهد ووعد الامل ضد اليأس واشياعه وتهزمانه إلى الابد.

Email; khaled.hroub@yahoo.com