قريباً سيعود وزير الخارجية الأميركية جون كيري إلى المنطقة، حتى يتمنى على إسرائيل إطلاق الدفعة الرابعة والأخيرة من سراح الأسرى الفلسطينيين، كما فعل قبل ذلك لإطالة أمد المفاوضات وإبقاء عجلاتها في حركة مستمرة.
الدفعة الثالثة من الأسرى الفلسطينيين، ستفرج عنهم إسرائيل أواخر هذا الشهر، لكن مصادر عبرية تقول إن هذا الإفراج مرتبط بإعلان مشروعات استيطانية جديدة، ويأتي بمباركة مختلف أركان الحكومة الإسرائيلية التي تحرص على عدم توقف هذا الاستيطان.
لا يمكن لأحد أن يصدق أن إسرائيل تقدم على إطلاق سراح الأسرى مجاناً، أو أنها تقوم بذلك من أجل السلام أو لتقريب وتحسين علاقاتها مع السلطة الفلسطينية، ذلك أن أي قرار إسرائيلي مستند إلى دراسة معمقة وخطة محكمة، تستهدف في الأساس تحقيق مصلحة البلاد.
الثمن الذي يدفعه الفلسطيني هو الموافقة على استكمال المفاوضات في إطار صفقة الإفراج عن الأسرى، أما موضوع التوسع الاستيطاني فهو تصرف إسرائيلي بحت، غير متصل بموافقة أو عدم موافقة السلطة الفلسطينية عليه، لأن إسرائيل لا تقيم وزناً للسلطة.
إسرائيل لن تتخلى عن الاستيطان ما دامت حية، فهي التي قامت على أساسه سواء في مرحلة ما قبل الدولة أو بعد ذلك، وفي نكسة حزيران العام 1967، احتاجت إسرائيل لاحتلال ومصادرة بعض الأراضي العربية، حتى توسع من نفوذها وتدعم أمنها، أو مبادلة تلك الأراضي المحتلة بالسلام الكامل والآمن الذي يديم وجودها.
هذا أيضاً حصل في أوسلو، حين قسّم الاتفاق الأراضي إلى "أ" و"ب" و"ج"، بما يعني عودة بعض الفصائل الفلسطينية إلى كل من غزة والضفة، وتأسيس سلطة حكم ذاتي على أراضٍ فلسطينية كانت تحتلها إسرائيل، مقابل تحقيق السلام والأمن ومساهمة السلطة في صياغة معادلة أمنية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة.
إن أحد أسباب عدم نمو أوسلو اتصل تحديداً بالاستيطان، وكان هذا الأخير أكبر حجر عثرة أمام تقدم أي مفاوضات عقدت بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، حتى أن خطة خريطة الطريق التي أنتجها الرباعي الدولي توقفت بسبب الأعمال الاستيطانية الإسرائيلية.
ومن يتابع خط سير المفاوضات السابقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، يلاحظ أن فشلها انسحب على الاستيطان، الأمر الذي يعني أن إسرائيل لن توقف هذه السياسة باعتبارها من مرتكزات قيام الدولة الإسرائيلية، ومن الثوابت السياسية غير الساقطة.
ما يضيف على المفاوضات الجارية تعقيدات حقيقية، هو أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هي بالفعل حكومة مستوطنين، وعلى الأرجح أن هناك تفاهماً إسرائيلياً - أميركياً يتعلق بموافقة الثانية للأولى على مواصلة التوسع الاستيطاني.
ولعل وزير الدفاع موشيه يعالون كان أكثر من واضح حين علّق على خطط استيطانية جديدة بالقول "إن من حقنا أن نبني وفقاً لتفاهماتنا واتفاقاتنا مع الأميركيين، ووفقاً لذلك سنستمر في البناء"، الأمر الذي يعني أن إسرائيل تتبنى الاستيطان قلباً وقالباً، وتسير به تحت الرعاية الأميركية.
ربما تعتبر إسرائيل أن مفتاح الوصول إلى السلام يكمن في الأرض، وأن تحقيقه الآن صعب للغاية في ظل الصراع المتواصل مع الطرف الفلسطيني، وبالتالي تسعى الدولة العبرية لكسب المعركة على الأرض الفلسطينية عبر تهويدها بالاستيطان، ومن ثم الخوض في السلام.
المعنى أن إسرائيل التي لم تحصل على إجابة موفقة من السلطة الفلسطينية بخصوص الاعتراف بها دولة يهودية، تحاول ترسيم هذه الدولة على الأرض، من جهة مصادرة أراضٍ فلسطينية وتهويد المقدسات وتزوير التاريخ لكسب المعركة.
حينها سنكون أمام معطيات جديدة وأمام تكوم أطنان من الثقل في ميزان القوى الإسرائيلي، وسيصبح السلام إما درباً مستحيلاً على الفلسطينيين، أو أنهم سيقبلون به بمعطيات مختلفة تماماً عن الحالية، وهكذا يكون وكما يقول المثل قد "وقع الفأس في الرأس".
إن ما يفعله نتنياهو الآن هو تهويد الدولة، وأيضاً تهويد السلطة الفلسطينية، إذ في الأولى يتوسع بالاستيطان ومن ثم الديمغرافيا، وأكبر دليل على ذلك ما يتعلق بحجم وأعداد المستوطنين في الضفة الغربية، الذي لم يتجاوز 110 آلاف منذ الإعلان عن أوسلو عام 1993، وما وصل إليه العدد اليوم متجاوزاً النصف مليون مستوطن.
أما موضوع تهويد السلطة الفلسطينية، فهذا يعني إرسالها إلى القاع وإضعافها وشل قدرتها على الحركة، وإبقاءها فاقدة للسيادة الوطنية وصلاحيتها محدودة للغاية، وأما اليوم فهي أضف إلى ذلك، فاقدة للشرعية، الأمر الذي يعني أن إسرائيل تستغل مثل هذا الجرح الفلسطيني الداخلي لتصب الزيت على النار نحو تعميق الكراهية والانقسام والتشتت بين الفلسطينيين.
مع ذلك فإن السلطة وبإرادتها قررت الارتهان لإسرائيل، خصوصاً حين تصمت عن كل هذا التغول الاستيطاني، والأهم عندما يتزامن مع الإفراج عن الأسرى في السجون الإسرائيلية، وكأن ذلك يصبح تواطؤاً فلسطينياً وموافقة ضمنية على الاستيطان الإسرائيلي، مع أنه في حقيقة الأمر ليس كذلك.
كم نددت السلطة وشجبت واستنكرت الأعمال الاستيطانية الإسرائيلية، وكم نبهت إلى أن ذلك من شأنه أن يفشل المفاوضات، وكم مرة هددت بانسحابها من العملية التفاوضية، وإلى اللحظة تواصل إسرائيل فعل كل ما تريد، دون أن نلمس موقفاً فلسطينياً قوياً تجاه الفظائع الإسرائيلية.
إذا كانت إسرائيل لا تقيم حساباً للسلطة ولا لرد فعلها، فالأولى لنا أن يكون لدينا رد فعل موجه ضد إسرائيل وسياساتها، ومن شأنه أن يُحصّن البيت الفلسطيني الداخلي، لأن السكوت عن مواصلة الاستيطان في حضرة مفاوضات هشة، يعمق من أزمة السلطة ويربطها بعلامات استفهام مشبوهة وكثيرة.
لماذا لا نختبر الموقفين الأميركي والأوروبي ونضعهما أمام مسؤولياتهما تجاه ما يسمى العملية السلمية، مع العلم أنهما طالبا إسرائيل بالتوقف عن إعلان أي مشروعات استيطانية جديدة، وعليه إذا صح القول إن هناك مشروعات سيتم الإفراج عنها مع الدفعة الثالثة للأسرى الفلسطينيين، فعلى السلطة الفلسطينية وقف مهزلة المفاوضات.
نعم وقف هذه المهزلة، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولعل مواصلة إسرائيل للاستيطان يعطي الجانب الفلسطيني فرصةً ويسهل عليه الانسحاب الأحادي من هذه المفاوضات، التي ليس لها مرجعية ولا ظهر يؤمن الحماية للطرفين ويكون الفاصل بينهما ويحفظ حقوقهما.
لقد أخطأت السلطة كثيراً في حقها وفي حق الشعب الفلسطيني، وعليها استثمار الفرصة حتى تقول "لا" في وجه الاستيطان، بما يؤدي إلى خطوات عملية تنسجم وهذه المفردة، أما البقاء عند نغمة التنديد والوعيد وانتظار كيري حتى "يطبطب" على جرحنا ويوصل حبل المفاوضات بلاصق صمغي، فهذا يعني أن السلطة ستجني على نفسها في يوم من الأيام، كما فعلت براقش!
Hokal79@hotmail.com


