تشير المعلومات المتواردة والمتوالية من مصادر مختلفة، وهي التي لم يتم التأكد من صدقيتها بعد، بأنه سوف يتم التوقيع، قريبا، على ما اطلق عليه "اتفاق إطار" بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية. تشي تلك المعلومات أوما سرب منها إلى خطورة ما قد ينطوي عليه على القضية الوطنية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وبعيدا عن محاكمة ما هو ليس نصا قائما بعد، وعن محاكمة النوايا، وحتى لا نعيد توصيف المأساة او نجتر هموم شعبنا ونعيد صياغتها وبيعها هما وحزنا، أرى بضرورة الوقوف بمسئولية وطنية أمام مشهد المفاوضات وما يشاع عن التوصل لاتفاق، إطار كان أو مرحلي أو نهائي.
بعد مضي ما يزيد على عشرين عاما على توقيع اتفاقية أوسلو، أجزم أن الفلسطينيين، بمختلف مكوناتهم، حتى من تولوا ولازالوا الالتقاء بالاسرائيليين، استكشافا أو تفاوضا، يرون بأن أي تفاوض يجب أن ينطلق في قطيعة مع اوسلو نفسه لما انتج من خيبات وأضرار بالغة على المشروع الوطني الفلسطيني. ونقطة البدء في ذلك والتي لقيت صدى أخلاقيا وسياسيا دوليا هاما، هي في ضرورة وجود مرجعيات جديدة للتفاوض لاتجعل الفلسطينيين رهائن في أيدي قوات الاحتلال في ظل اختلال خطير في موازين القوة بين المحتل والشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، قوامهما وأساسها قواعد الشرعية الدولية والقانون الدولي والحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. ومن جهة ثانية أنه لابد من وجود أطار زمني صارم يقطع على اسرائيل أي إمكانية لاستخدام عامل الزمن لسلب الفلسطينيين مقومات وجودهم والعبث في مقدراتهم أو لجعل التفاوض عملية لا تنتهي، والفشل أو التعثر في جولة من المفاوضات هو إيذان بجولة جديدة.
يظهر مشهد التفاوض الراهن أن هناك تبدلا كبيرا لدى من يتولونه قد يكون مرده إلى الضغوط الهائلة، والمتوقعة أصلا، التي مارستها على وجه الخصوص، الولايات المتحدة الأمريكية على السلطة الفلسطينية، كما يظهر المشهد نفسه، أن التفاوض قد انطلق في أوضاع يعيشها الفلسطينيون هي الأكثر تعقيدا وضعفا وفي ظل أزمة هي الأخطر التي تعصف بنظامهم السياسي، غياب صارخ للتوافق وانقسام خطير وتفتيت للجغرافيا ووحدة الأراضي وللنظام السياسي نفسه، واستيطان يبتلع ما تبقى من الأرض الفلسطينية، وتقويض خطير للسلطة ومقدراتها يجعلها أكثر انكشافا واعتمادية على غيرها، كل ذلك في ظل تسونامي سياسي يعصف بالمنطقة، لم يهدأ بعد ولا يمكن لأحد أن بتنبأ بمآلاته.
إن السلطة، التي تتولى المفاوضات، مطالبة بمصارحة شعبها بحقيقة مايتم التفاوض حوله وما تم الاتفاق بشأنه، ويقينا إن فرض ستار حديدي حولها، يدفع للقول بأن هناك ما يتم إخفاؤه وبأنه قد ينطوي على خطورة سياسية بالغة، ومايتم في الخفاء عادة هو مايخجل منه من يقوم به، وغالبا ما يكون موضع ريبة. إن المفاوضات تمس صميم حقوق الشعب الفلسطيني وهو ما يتطلب ابتداء، التوافق حولها، وهو ابعد ما يكون عن ذلك بفعل حالة الانقسام الخطيرة التي يمر بها الفلسطينون.
إدراكا بأن النظرة إلى المفاوضات يجب أن لا تكون نظرة عدمية وعقيمة ورافضة لها من حيث المبدأ، فإنها حكما، يجب أن تكون أحدى وسائل وآليات تحقيق المشروع الوطني المتوافق عليها، فهي ليست بذاتها بل بعلاقتها بغيرها من وسائل الكفاح المشروعة، المتوافق عليها أيضا، لتمكين الفلسطينيين من الاقتراب أكثر نحو انجاز مشروعهم الوطني وحصولهم على حقوقهم المشروعة غير القابلة للتصرف. إن سؤال التفاوض الأساس: أنه في ظل الاختلال العميق لموازين القوى وفي ظل تغول غير مسبوق للمشروع الصهيوني بتسريع الاستيطان وبتهويد منظم للقدس المحتلة وبفرض حصار شامل على القطاع، وبتفتيت وحدة الأراضي الفلسطينية، هل يمكن لها، أي المفاوضات، أن تؤدي دورها فيما هو مأمول منها؟ وهل يمكن لها أن تصحح خللا بنيويا انتجته اوسلو ويدفع ثمنه الفلسطينيين يوميا شقاء وبؤسا؟ وهل لها أن توقف استيطانا أو حصارا أوتعيد أغوارا أو تمكن الفلسطينيين من السيطرة على مواردهم وحركة افرادهم وبضائعهم؟
إن أي اتفاق مهما كانت أحكامه وملحقاته وبروتوكلاته، لا ينطلق من التأكيد على المركز القانوني للأراضي الفلسطينية بأنها أراض محتلة وان اسرائيل هي قوة الاحتلال الحربي، هو اتفاق سوف يؤسس لما هو كارثي، لأن عدم الاقرار بذلك، سوف يعني نظرية وممارسة، قبل الفلسطينيون أم لم يقبلوا، أن لإسرائيل إدعاء قائم بملكية جزء أو كل الأراضي التي احتلتها في العام 1967. إن الاقرار بالمركز القانوني كأرض محتلة يعني أن ما قامت به قوات الاحتلال او ما ستقوم به هو غير قانوني و لاشرعية له، وهو ما يعني من الناحية القانوكأنه لم يكن. إن احد خطايا اتفاق اوسلو أنه لم يقر بذلك، وهو ما ترك لدولة الاحتلال إمكانية مواصلة الاستيطان على الأرض الفلسطينية والسيطرة الفعلية على حركة السكان ومواردهم وبضائعهم. إن قبول "مبدأ اجراءات بناء الثقة" و"إشاعة أجواء السلام" كمرجعيات تنظم سلوك دولة الاحتلال، لم يكن الا وهما كارثيا، لم ينتج عنه الا مزيد من الجرائم والممارسات، وما الاستيطان الا وقاحة الحقيقة لوهم "اجراءات بناء الثقة" التي لم تمكن الفلسطيينين حتى من ملاحقة احصاء عدد البيوت التي تشيد في المستوطنات على الأرض الفلسطينية.
إن العوار الأساسي في اتفاق اوسلو والاتفاقات اللاحقة هو غياب مرجعياتها القانونية، إن كان هناك أساسا أي مرجعيات تنظمها، باستثناء طاولة المفاوضات نفسها. إن إنهاء الاحتلال وحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة غير القابلة للتصرف هو هدف كفاحهم وجوهر مشروعهم الوطني، وأي اتفاق لايتضمن التأكيد على مرجعيات جديدة ومحددة قوامها القانون الدولي، لتصحيح كارثة تفاوضية، حصدنا نتائجها استيطانا وحصارا وتشظية، سوف لن ينتج إلا مزيدا من الكوارث للشعب الفلسطيني. إن أي اتفاق يجب أن يستند إلى قواعد العدالة وقواعد القانون الدولي والشرعية الدولية وحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة غير القابلة للتصرف. والمفارقة ان الرئيس عباس وفي خطابه في الجمعية العامة في الأمم المتحدة في 23 سبتمبر 2011، قد أكد على أنه "من غير المجدي الذهاب إلى مفاوضات بلا مرجعية واضحة وتفتقر للمصداقية ولبرنامج زمني محدد. ولا معنى للمفاوضات في حين يستمر جيش الاحتلال على الأرض في تعميق احتلاله بدلاً من التراجع عنه وفي إحداث تغيير ديموغرافي لبلادنا يتحول إلى منطلق جديد تتعدل الحدود على أساسه."
فهل تغيرت المرجعيات وهل تم ضمان برنامج زمني محدد؟ وهل تراجع الاحتلال عن استيطانه، أو على الأقل جمد ذلك؟!
إن أي اتفاق لا يُمِّكِن الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه المشروعة، يعني عمليا، إعطاء دولة الاحتلال مزيدا من الوقت لتغيير معالم الجغرافيا والديمغرافيا والإجهاز على ما تبقى من أرض ومقدرات. عندما جرى توقيع اتفاقية اوسلو في العام 1993، كان عدد المستوطنين في الضفة الغربية حوالي مائة الف مستوطن، والآن وبعد مضي عشرون عاما يتجاوز عددهم ستمائة ألف مستوطن، مضافا الى هذه الحقيقة، ما قامت وتقوم به دولة الاحتلال من تهويد للمدينة المقدسة وطمس معالمها العربية، الاسلامية والمسيحية، وعزلها عن باقي الأراضي الفلسطينية في عملية منظمة تكاد نهايتها قد تكون اقتربت.
إن الانفصال الأحادي عن غزة من قبل قوات الاحتلال، لم يكن الا فعلا أمنيا استراتيجيا بامتياز، هدف إلى تفتيت وحدة الأراضي الفلسطينية كوحدة سياسية عرفتها اتفاقية بأوسلو بأنها وحدة اقليمية واحدة وبعدم جواز المساس بسلامتها، وكما وهدفت إلى التخلص من ثلث الديمغرافيا عبر التخلص من مليون وثمانمائة الف نسمة في القطاع ومحاصرتهم وإنهاء المسئولية عنهم. إن ما هدف اليه الاحتلال و لازال هو قطع الطريق على امكانية قيام الدولة الفلسطينية الموعودة وتدمير الفلسطينين وملاحقتهم في وعيهم حتى في امكانية قيامها. إن الإنفصال عن غزة وفقا لما يؤكده شلومو بروم، الباحث في مركز دراسات الأمن القومي الاسرائيلي، بأنه لولا اتفاق اوسلو لما كان بالامكان الانفصال عن غزة في العام 2005، وهو ما يعني أن خيار الانفصال اسرائيليا، سابق على اوسلو نفسه، فهو جزء من مخطط قديم توفرت الظروف والأسباب لتنفيذه. وقد ترافق الانفصال عن غزة مع عمل محموم وصراع مع الزمن لتوسيع دائرة الاستيطان في الضفة والقدس سعيا لاحداث التوازن الديمغرافي فيهما والذي كان ولازال كابوسا يقض مضاجع المؤسسة الرسمية الإسرائيلية. إن أي إتفاق لا يبدأ من التأكيد على وحدة الأراضي الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، سوف لن يزيد الفلسطينيين إلا بعدا عن تحقيق مشروعهم الوطني ويزيده تعثرا على عثراته. إن الضفة جزء من الأراضي الفلسطينية والفلسطينيين في الضفة وغزة هم جزء من الشعب، فلا الضفة فلسطين، ولا سكان غزة والضفة هم الفلسطينيون.


