خبر : البشرية تدفع ثمن مخالفتها قانون التوازن في الطبيعة أو لعنة المدنية ..بقلم: حسين حجازي

السبت 21 ديسمبر 2013 08:58 ص / بتوقيت القدس +2GMT



لو كنا نعيش في زمن اقل تنويرا لتناقل الناس اخبار العاصفة اليكسا التي اغرقت غزة على انها طوفان نوح، ولكن كما كان طوفان العهد القديم لحظة من الكشف لتبيان الخبيث من الطيب، حيث لا عاصم لكم اليوم يا أهل غزة من هذا الطوفان الا الله، فإن الكارثة الطبيعية التي احلت بالغزيين قد ابانت عن خبث السياسة الدولية والعربية التي صمتت طويلا امام هذا التنكيل غير الاخلاقي، بهذا الجزء من سكان الارض الاّدميين، والذين لم يأت منقذ ليحملهم في سفينته كباقي ركاب سفينة المجتمع الدولي.

وسوف يُنقَذ سكان حي الشيخ رضوان بدلا من ذلك بقوارب الصيد البدائية , الى حيث يمكن ايوائهم من كل اسرة باطفالها وازواجها وشيوخها , حين لم يعد بامكان المعدات القليلة التي يملكها الدفاع المدني السيطرة على هذا السيل العرم , حتى بانت سوأة الحصار وسوأة السياسات وانحطاط اخلاق الدول في هذا الزمان .
وتمنى اسحق رابين مرة ان يصحو من النوم ليرى غزة وقد غرقت في البحر , لكن غزة لم تغرق في البحر وانما بشبر من ماء المطر . بعد ان تحول المطر الذي كان من قبل انشودة في القصيدة لبدر شاكر السياب , الى سؤال يجافي الشعر , محيلا مجموعة من الناس هكذا فجأة ودفعة واحدة لطرح السؤال الفلسفي على الامام علي كرم الله وجهه , رأس مدينة العلم عن قوة الماء التي تأتي في مرتبة اقوى من الجبال والحديد والنار , اذا كان الحديد من يقهر الجبال وكذا الحديد تصهره النار والنار يطفئها الماء . الذي لم يسقطه تلميذ بوذا في سؤاله المحير للمعلم : عن اين تذهب العناصر الاربعة المكونة للحياة الماء والنار والهواء والتراب بعد ان تنتهي الحياة ؟ .
وارتدى المسكين اسماعيل هنية رئيس حكومة حماس الغزية ثياب رجال الدفاع المدني، لاظهار تضامن حكومته مع الناس الذين لم يجدوا سوى قوارب الصيادين البدائية لإنقاذهم من خطر الموت المحدق بهم غرقا ببيوتهم. لكن غزة التي لم تشهد منذ العام 2007 احداث أية مشاريع تطويرية لبنيتها التحتية بسبب الانقسام لسوء الطالع، ما فكر احد من قبل بطرح سؤال مطر الماء الفلسفي : " واين يذهب ماء المطر اذ القطر انهمر وفاضت بركة الشيخ رضوان وجنّ الماء حتى غرقت منطقة النفق، وعجزت مضخات سحب الماء القليلة عن التخلص من هذه المياه ؟ " .
والمسألة التي لم تكن واضحة من قبل ها هي اليوم ترتسم امامنا بوضوح , ان مخالفتنا لقوانين التوازن في الطبيعة هو الداء والدواء هو المشكلة وهو الحل.
وقال السيد اسماعيل هنية بعد ذلك بأيام "لقد انتصرنا في مواجهة عدوان الطبيعة هذه المرة بفضل صمود شعبنا في مواجهة المنخفض " . كل منخفض من هذا النوع يا اهل غزة وانتم بخير .
لا سيدي رئيس الوزراء نحن لم ننتصر في مواجهة عدوان الطبيعة الغاشم، ولا بنيامين نتنياهو الذي ادعى بأقوال مشابهة نجاح حكومته في التعامل مع العاصفة انتصر هو الاّخر، والسبب بسيط أن اسرائيل لم تنتصر في مواجهة حريق الكرمل وهو عدوان اّخر من الطبيعة , ولا بالطبع أي حكومة في العالم يمكنها الانتصار في مثل هذه الحروب مع الطبيعة طالما انها تتعامل مع الطبيعة بمنطق السياسة الجارية التي تتبعها الدول عادة , دون ان تتعامل هذه الدول مع الطبيعة وفق منطق سياسات الطبيعة القائمة على قانون التوازن , التكيف الذي يتفوق على الاداء .
ولكن لفهم المسألة هاكم احالة سابقة الى خبرتين شهدت فيها غزة عاصفتين مماثلتين , العام 1949 الذي سجله جيل المهاجرين بعد النكبة في ذاكرتهم " بسنة الثلجة " . والعام 1961 الذي شهدته شخصيا يوم ان طار قرميد صفوف مدرستي الابتدائية من شدة الرياح والمطر , ولم تكن هناك بركة الشيخ رضوان العظيمة , فأين ذهبت مياه المطر التي كانت تجري سيولا ؟ والجواب امتصتها الارض لتتحول نبات وتحلّي مذاق ونوعية مياة الشرب , ولم تكن اّنذاك لأفكار الصناعات الرأسمالية المبهرة ان تخترع لنا اّلات وتقنيات تنقية المياة , او ما يسمى المياه المعدنية المعبأة بالزجاجات البلاستيكية , وكانت مياه الله تسقي ارض الله.
لكن اما واننا نظل نواصل هذا الهوس بتغطية ارض الله بالزفت والاسفلت القار والقطران الاسود , وتمدد العمران الذي اصبح يهدد بتغطية الارض بهذا البساط الحجري الاصم غير السندسي الاخضر , فأين تذهب مياه المطر ؟ .
تدخل في بيت أخي صالح لتغمر الطابق الارضي , ولم يسلم الرمل الذي كان بجوار بيته فرصف حتى طريقا فرعيا عبارة عن زقاق ببلاطا حجريا , واحتاجت الحسكة التي اقلته وعائلته ان تدخل ممر البيت . وفي مشهد يليق بأجواء افلام هوليود المثيرة والخيالية , تذكر اخي ان ينبه الصياد الذي جاء لينقذهم , وهم يسيرون في هذه البحيرة الخرافية : " انتبه انت تسير الاّن فوق الاسلاك الشائكة التي تحيط بجدار البركة , الى اليمين او الى اليسار قليلا " .
شيئ يبدو غير قابل للتصديق، فهل كان بإمكانك ان تتخيل يوما ان حسكة ما بمجداف بدائي تدخل ممر البيت عندك ؟ ربما قبالة الصالون او غرفة النوم , لتنقلكما ذات صباح اثنان اثنان وفي وضع من التوازن الدقيق لئلا تغرقا= ؟ واين ؟ في الشارع المؤدي الى بيتك ؟ .
نعم انتصرنا بهؤلاء الفتية المهرة الذين روضوا كما فعل ابائهم واجدادهم من قبل البحر . وقد شهدتهم بأم عيني العام 1973 ولعلهم كانوا اّباء هؤلاء الفتية , حين عجزت اسرائيل دولة الاحتلال عن انقاذ طاقم السفينة الايطالية التي سحبتها الامواج الغاضبة قريبا من الشاطئ , وشقتها كما لو بسكين الى نصفين , وتمكنوا بالحسكات نفسها كما لو انهم شياطين البحر , من انقاذهم مع القبطان جميعا , وان لم يترددوا بعد ذلك باعتبارها ومحتوياتها غنيمة حرب وواصلوا لأشهر الغوص بها لأخذ كل ماكان فيها , صحتين .
لكننا اليوم وقد اصبحنا نساوي في الخوف بين تهديد المنخفضات الجوية والحروب , فأننا في المرات القادمة قد نتمكن من الرد على عدوان اسرائيل بالحرب , لكن ربما من حسن الحظ ان مثل هذا العدوان الذي تشنه الطبيعة لا يتكرر هنا الا كل بضعة عقود من الزمن , والا لا يمكننا قهره طالما نواصل هذه المخالفة لحكمة ومنطق الطبيعة . والمعادلة اليوم ان الانسان يمكنه ان ينتصر ويقهر ويهزم ويقتل اخيه الانسان , لكن في الصراع والحرب الدائرة بين الانسان والطبيعة لا تحدثونا عن انتصار للانسان.
وربما يكون مفارقا القول ان هذه النتيجة تحددت مسبقا منذ افتراق الانسان عن الطبيعة , وهذا الافتراق قد يكون صادما لكم . حين نعرف انه تصادف في التاريخ مع دخولنا ما يسمى طور المدنية , وتحول الى نزعة من الدمار الذاتي حينما انتقلنا من عصر الزراعة والرعي الى عصر الصناعة وسيطرة الرأسمالية . وسوف نغترب اكثر عن الطبيعة والواقع باستبدالنا في طور اكثر تمدنا وعولمة , العالم الواقعي الحقيقي بالعالم الافتراضي , وانه فقط لأيام قليلة في ذروة العاصفة وانقطاع الكهرباء , عاد الاولاد الى العائلة وما بقي من العالم الواقعي القديم.