خبر : غضب الطبيعة ولعنة الانقسام ...طلال عوكل

الإثنين 16 ديسمبر 2013 11:23 ص / بتوقيت القدس +2GMT
غضب الطبيعة ولعنة الانقسام ...طلال عوكل



لم يكن ينقص سكان قطاع غزة، سوى غضب الطبيعة، بعد ان تعرضوا لغضب الفرنجة، والفرس، والمتشردين في الارض. كنا نتحدث عن غياب او تغييب حقوق اساسية للمواطن الغزي، الحق في العمل والحق في التعبير، والحق في حياة كريمة، وبالسفر، واذا بنا مضطرون للحديث عن الحق في الحياة بأبسط مقوماتها.

يوما بعد آخر تتضح معالم حياة تزداد بؤساً لأسباب كثيرة مجتمعة، من استمرار الحروب والعدوانات الاسرائيلية على القطاع، إلى الحصار المشدد والظالم، الذي يقع تحت عنوان العقاب الجماعي، الى الفقر والبطالة المتزايدة، والانهيار الاقتصادي، الى تداعيات الانقسام الذي لا يزال يؤسس للمزيد من الكوارث.
غزة تغرق بالخير، هل سمعتم ان الناس يغرقون، ويتعرضون للموت، بردا وفقرا، وجوعا، وقهرا بسبب كثرة الخير؟ قبل هذا المنخفض الجوي، غير المسبوق على فلسطين منذ مئات السنين، خرج الناس لكي يؤدوا صلاة الاستسقاء، فلقد تأخر هطول الامطار، فطاء الخير عميماً طافحاً حتى اننا لم نعد نحتمل ترف الاستفادة منه، فكان علينا ان نصلي مرة اخرى حتى يتوقف هذا الكم من المطر عن الهطول. لم نتعود على هذا القدر الطافح من الخير، فالفقير ان عثر على كنز، قد يصاب بالجنون او الخرف من شدة الصدمة. في الواقع وبحسب الارصاد الجوية والتغييرات المناخية، فإن ما تعرضت له غزة، هو البداية لموسم، قد يطفح فيه الخير أكثر فأكثر، بدون أن تتغير قدرتنا على تحمّله، أو معالجة واستيعاب تبعاته. منذ بضع سنين والارصاد الجوية تحمل لنا تباعاً أخبار التغير المناخي، الذي لا يتوقف على فصل الشتاء، فلقد كان فصل الصيف الماضي حاراً جداً على غير ما اعتاده سكان القطاع، ولكن الشكوى كانت صامتة لأننا استهلكنا قدرة على نقد أسباب انقطاع التيار الكهربائي، وشح الوقود، ولم يسعفنا بحرنا الغارق بالكافتيريات، والملوثات من أن يخفف عنا وطأة الحر.
مفارقة غريبة، ان يعاني سكان شواطئ البحر المتوسط من شدة الحر، بينما يتوفر لديهم المتنفس. اما في الشتاء فإن الأمطار، تكشف عن كل العورات المستورة، لأنها لا توفر للناس الخيار، لم يتحضر سكان قطاع غزة، لمثل هذا التغيير المناخي، وكان عليهم أن يواجهوا هذا الغضب الطبيعي، الذي قد لا يظل طارئاً من خلال نفس البنية التحتية الضعيفة، وبنفس الامكانيات المادية المحدودة، وبنفس الخبرات البشرية المحدودة في التعامل مع مثل هذه الازمات. خلال الايام القليلة الماضية أدركنا على نحو حقيقي ان الكهرباء هي الحياة، لانها ليست مجرد اضاءة، وتلفزيون وكمبيوتر، لقد ادى هطول الامطار الى تعطيل ما يتوفر من شبكة الكهرباء، فتوقفت مضخات تصريف المياه، والمجاري، ما ادى، الى تفاقم الازمة، وتجمع المياه على ارتفاعات غير معهودة، ادت الى غرق الطوابق الاولى من البنايات التي تقع في مناطق منخفضة. لم نحص بعد خسائرنا المادية، والأرجح أن المساعدات التي يمكن ان يستقبلها سكان القطاع، المنكوبون، ستتخذ طابعاً اغاثياً فيما تقصر عن تعويض الخسائر، أو تساهم في معالجة المشكلة من أسبابها.
قبل هذه الموجة من المنخفضات الجوية، كانت مؤسسات دولية عديدة قد اصدرت تقارير تقول بأن قطاع غزة في عام 2020، لن يكون صالحاً للحياة الآدمية، بسبب نفاد مخزونات المياه، وتلوث ما يتبقى منها. قد يتبادر للبعض ان هطول الامطار بهذه الكثافة سيجعل الخبراء الدوليين والمحليين، يتراجعون عن استنتاجاتهم بشأن علاقة الحياة بالمياه في القطاع، ولكن اذا صح ما ذهبت اليه تقاريرهم واستنتاجاتهم، فإن هطول الامطار على النحو الذي جرى، لا يعني ان مشكلة المياه في قطاع غزة قد انتهت. المياه التي سقطت، وتجمعت بكميات كبيرة في عدد من المناطق المنخفضة اختلطت مع مياه الصرف الصحي، وتم ضخها الى البحر، أو الى مناطق فارغة، مما يعني أن القليل منها يترسب إلى باطن الأرض ليغذي المخزون الجوفي.
قد يذهب المتخصصون في شؤون البيئة لتفسير ما جرى في القطاع، من خلال استعراض جملة الأسباب الفنية ـ اللوجستية، التي تتعلق بالبنية التحتية وبالامكانات المتوفرة، والخبرات، ولكنني سأذهب في اتجاه آخر.
إن ما جرى، هو استمرار للعنة الانقسام، الذي يدفع ثمن استمراره الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية بكل أبعادها، فالأزمات الحياتية التي يعاني منها الشعب في قطاع غزة ترافقت وتفاقمت خلال مرحلة الانقسام التي جرت معها الحصار بكل تبعاته.
إن الطبيعة تحتج على استمرار هذا الانقسام، من خلال الكشف عن المزيد والمزيد من الويلات التي يتسبب بها، فلولا هذا الانقسام لما عانى سكان القطاع من ازمة الكهرباء والوقود، ولما عانى من نقص الامكانيات المادية والفنية والبشرية ذات الخبرة في التعامل مع ازمات وكوارث كالتي تضرب القطاع، في ظروف طبيعية، كان من المفروض ان يتم الاعلان عن قطاع غزة منطقة منكوبة، تستحق ان يهرع المجتمع الدولي لمد يد المساعدة، ولكن الانقسام والحصار يقفان عائقاً، أو يقدمان الذريعة لتنصل المجتمع الدولي من مسؤولياته.
لم تعلمنا السياسة ودروبها المتعرجة، فهل نستخلص الدرس مما تقدم لنا الطبيعة؟ لم يعد ثمة وقت طويل...