بالتأكيد هي ليالي الانس في فيينا .. ام تراكم توقعتم ان اقولها ليالي الانس في غزة مثلا !! طب ليش لأ .. هي غزة حظها ناقص يعني ، دعونا نجرب والميه بتكذب الغطاس .. ليالي الانس في غزة .. نسيمها من هوا الجنة .. نغم في الجو له رنه .. لا ، مش راكبة هيك .. ليالي الانس في غزة .. زنانة وقصف له هزة .. كفاح وصمود وكمان عزة .. والله ركبت ، بس بيني وبينكم مش راكب عليها اللحن ، صار بدها كام صلية كلاشنكوف ، وارم علي من السما .. فلندع مالقيصر لقيصر وما لله لله.
هي اذن ليالي الانس في فيينا .. نغم في الجو له رنة .. سمعها الطير بكى وغنى .. كلام ناعم سلس من المبدع احمد رامي ، يداعب اوتار الاحساس بلحن مبتكر في حينها ومقتبس ومطوع من العالمية للاقليمية لعبقري التلحين والغناء ايضا ، الموسيقار فريد الاطرش ، ولو ان من سيعجبهم هذا الوصف في زماننا عددهم قليل بحكم اختلاف الاذواق بين القديم والحديث ، اما الصوت فلا خلاف عليه ولن يكون ، ولا تقوللي قديم ولا حديث ولا مستقبلي ايضا ، انه صوت اسمهان ، التي عاشت معجزة ، وماتت لغزا ، وحفظها التاريخ اسطورة غناء.
اشكركم على سعة صدركم ، حتى الان على الاقل ، واطمئنكم انني لم اتحول من الصحافة الى الفن بعد ، مع انه لا فرق كبير بينهما فكلتاهما مهنة متاعب ، اما لماذا كانت هذه المقدمة الموسيقية الغنائية فلا اخفي عليكم انني اعشق الموسيقى والغناء ، ولكن ايضا ليس هذا هو ما شدني لهذه المقدمة وانما هو نظرية الضد يظهر حسنه الضد ، الله اكبر ، يعني لنا شاهين راحت لاخر الدنيا لتظهر حسن غزة عندما تقارن بفيينا التي هي روضة مالجنة على حد وصف رامي الذي لا اراه الا بالكاد قد اوفاها حقها ، ياليت ذلك كان ممكنا ، كان من عيني ، لكنه العكس ، انه التاكيد على تواضع حال غزة اذا ما قورنت بفيينا ، لاحظوا تعبير ( تواضع حال غزة ) وخلينا اصحاب احسن ، بلاش نجيبها على بلاطة .
دعونا نطرح جانبا كل المقدمات واساليب تعبئة وتغليف الكلام بما يضمن سعة انتشاره وسرعة وسهولة تسويقه .. الحكاية ايها السادة هي انني افقت ذات مرة من نشوتي بالتحليق في فضاء سحر صوت اسمهان الذي لم تبلغ بي الفصاحة بعد ولا المعرفة المتعمقة بفن الموسيقى والغناء مبلغا يمكنني من وصفه بدقة ومهنية ، افقت على خاطر يطن في ذهني ، لماذا فيينا بالذات في اغنية عربية ، وفي فيلم مصري بقصة محلية هو غرام وانتقام ، وليس همام في امستردام مثلا حتى يكون للنقلة الجغرافية ما يبررها ..
سؤال دفعني دفعا في مسارات قد تكون متباينة ومتناقضة ولكنها تنتهي في مجملها عند تساؤل يحمل اجابته في صلب تكوينه. هل فاق استمتاع الناس في ذلك الحين بجمال الدنيا وروعة الاحساس بالحياة ما توفره لهم البيئة المحيطة فانطلقوا ينهلون من منابع الجمال في اصقاع اخرى من الارض ؟ لكن تلك الفترة من التاريخ كانت زاخرة بالاحداث المأساوية والمرعبة على نطاق العالم كله ، وكانت ايضا في مصر والشام وفلسطين وما حولها فترة قلاقل وانتفاضات بما يشبه الثورات ، وكفاح ضد المستعمرين ، والواقع انه لا توجد فترة في التاريخ ليست كذلك بشكل او بآخر ، لكن يبدو ان الناس كانت تعرف كيف تستخلص العسل من لسعات النحل ..
مؤكد ان احمد رامي كان مفعما بالرومانسية ومشبعا بسحر الطبيعة ورونقها وهو يكتب ليالي الانس في فيينا ، تماما كما كان امير الشعراء احمد شوقي حينما طرب وعاده ما يشبه الاحلام من ذكرى جارة الوادي ، زحلة لبنان، التي قال فيها احلى كلام رغم تعطل لغة الكلام .. اليس هذا دليل فعلي على ان كل اناء بما فيه ينضح !!
شوقي ورامي كانا في منتهى الشاعرية والاحساس بالجمال وعشق الحياة فقالا ما قالاه ، وعلى النقيض كان محمود سامي البارودي في منفاه بجزيرة سرنديب السيريلانكية فقال كلاما مغايرا تماما لم يتغزل فيه بجمال سرنديب ولا اي شبر من اقليم كولومبو ، مع ان الطبيعة هناك في جعبتها الكثير من مواطن الجمال . بس ، وصلنا .. هنا بيت القصيد ومربط الفرس ومكمن الداء وكل ما يعبر عن معنى واحد اوحد هو دعونا نتوقف عند هذه النقطة فقد وجدنا ضالتنا .. كل اناء بما فيه ينضح ، وفاقد الشيء لا يعطيه .. فكيف تكون في غزة ليالي انس وليلها طائرات استطلاع بدون طيار تزن وتطن فتثير الاعصاب وتشوش اشارات مخ الانسان قبل اشارات بث التلفاز ، وليل غزة ضجيج مولدات كهرباء لا يمكن ان يكون نسيمها من هوا الجنة بكل ما يحمله من سموم ثاني اكسيد الكربون .. وليل غزة مريض ضاقت باهله السبل وتقطعت قلوبهم حزنا واشفاقا عليه في محنته وخضم الامه ، فلا غزة تملك علاجه ، ولا اسرائيل تسمح بدخوله ولا معبر رفح يرأف بحاله في كل الاوقات ..
وكيف يلتقي الانس في غزة مع الحصار والاغلاق من فوق الارض ومن تحتها ، ولو استطاع البعض ان يتحكم في السماء فيمسك المطر عن اهل غزة لفعل ، وتحول بعده الى الشمس والهواء لعله يقدر على منع دخولها القطاع ايضا . لاحول ولا قوة الا بالله ، تذكرت ما لا احب ان اتذكره .. المعابر او ما يمكن ان نكون اكثر واقعية ونسمي الاشياء باسمائها فنقول المغالق لكثرة ما تسد ابواب الرحمة في وجوه من لا منفذ لهم الا عبرها الى ضرورات عيشهم من علاج وعمل ودراسة ، وياسيدي للنزهة والسياحة ايضا ، لا هي عيب ولا حرام ، وللا يعني اهل غزة بس اللي حظهم ناقص و بس مكتوب عليهم الغم و الهم !! ومن معبر بيت حانون لمعبر رفح يا قلب لا تحزن ، وخليها في القلب تجرح ولا تطلع بره تفضح .. الضد يظهر حسنه الضد !! ماشي ، دعكم من كل ماسبق و تعالوا نقف عند هذا المقطع من الصورة ..
فيينا التي تغنوا بليالي الانس فيها كانت حينئذ تخضع لسيطرة النازي ، وبالطبع كانت تعاني ، اخيرا وجدنا تشابه حقيقي بين فيينا وغزة ، لكن سرعان ما اشتعلت الدنيا من حولها بالحرب الكونية الثانية ، وكان كل ما كان من دمار وازهاق ارواح ، وكان في النهاية الخلاص ، ووجع ساعه ولا كل ساعة.
طيب واحنا !! هل كتبت علينا المعاناة الازلية ، معاناة مفتوحة مثلا ، حتى اشعار اخر، ووجع كل الساعات والسنين والازمنة !! ام ان كل ما تحملناه من عدوان وسفك دماء ودمار وحصار ومصادرة حقنا في حرية الحركة والتنقل خلافا لاتفاقية جنيف الرابعة ، بل حقنا في حياة مستقرة كريمة لا قهر فيها ولا هوان ، كل تلك السنين لايكفي ثمنا للخلاص ! وهل دفعت فيينا ثمنا اكبر لتصبح هي الحسن وتبقى غزة هي الضد ؟؟.
طيب بالعند فيك ايها الزمن الاغبر .. ليالي الانس في غزة .. امل وصمود وكمان عزة .. واديها مليون صلية كلاشينكوف.


