ثمة من صفَّق للاتفاق الأميركي ـ الروسي الذي جنَّب سورية من احتمال كبير لشن ضربة عسكرية، تراوحت بين أكثر من "وخزة دبوس" كما قال وزير الدفاع الأميركي، وأقل من إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، الذي تتهمه الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الغربيون بأنه يتحمل مسؤولية استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة أواخر شهر آب الماضي.
المصفقون اعتبروا أن الدبلوماسية انتصرت على حساب استخدام القوة، وأن سورية تجنبت فعلاً عسكرياً غير معروفة نتائجه، لكن إلى اللحظة لم تنته أزمة هذا البلد، فالصراع بين النظام والمعارضة مشتعل على أشده، ولا يبدو أن هناك اتفاقا قريبا سينهي هذه الأزمة.
لقد عالج الاتفاق فقط موضوع السلاح الكيماوي السوري، ذلك أن الأميركيين معنيون كثيراً بضرورة اعتبار سورية خالية من أي سلاح قد يهدد إسرائيل، وليس خافياً أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، طمأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأن الولايات المتحدة ستفعل المستحيل من أجل القضاء على الترسانة الكيماوية السورية.
الاتفاق الذي أقرّه الأميركيون والروس في جنيف، يتضمن إلى حد معقول، مصالح الطرفين، فالولايات المتحدة تريد إخراج سورية من دائرة التأثير العسكري وتوازن القوى في المنطقة، كما يهمها أن لا تحصل الجماعات الإسلامية المتطرفة على السلاح النووي والفاعل، في حال سقط النظام السوري.
أيضاً بات الروس مهتمين بموضوع السلاح الكيماوي السوري، على طريقة خوفهم هم الآخرين من احتمال حصول الجماعات المتطرفة، خصوصاً تلك التي لجأت من دول الاتحاد السوفيتي سابقاً ومن القوقاز تحديداً إلى سورية للقتال ضد النظام، نقول إن الروس خائفين من احتمال حصول تلك الجماعات على سلاح يهدد روسيا.
قبل هذا الاتفاق، سعت الولايات المتحدة وبذلت جهداً لتأمين قرار دولي من أجل توجيه ضربة عسكرية إلى سورية، وفشلت في ذلك لأن الروس والصينيين أوقفوها في مجلس الأمن الدولي، ومع ذلك تمكنت من إقامة تحالف يؤهلها لشن ضربة خارج إطار الشرعية الدولية، وقبل صدور تقرير المفتشين الدوليين بخصوص السلاح النووي.
الأميركيون بطبيعة الحال أخفقوا في إدارة الأزمة السورية، خصوصاً وأن استعجالهم في استهداف معاقل النظام السوري، وضعهم في موقف محرج أمام أنفسهم أولاً، ومن ثم أمام المجتمع الدولي، فضلاً عن الموقف الروسي الذي أثبت أن موسكو تتمتع بقوة وأنها فرضت نفسها بقوة على الخارطة الدولية.
وعملياً جرى اختبار للقوة قبالة السواحل السورية، حيث أُطلق صاروخين بالستيين من قبل البوارج الحربية الأميركية، قيل إن إسرائيل أطلقتها لأغراض تتعلق بعلوم الطقس، لكن مصادر استخباراتية أفادت بها صحيفة "السفير" اللبنانية، ذكرت بأن الدفاعات الجوية الروسية هي من أسقط تلك الصواريخ وأنها أميركية.
ويبدو أنه جرى التكتم على الموضوع، لكن شكّل البحر المتوسط موقعا لاستعراض القوة، حيث عززت روسيا ودفعت بالمزيد من القطع البحرية العسكرية، في حين حشدت الولايات المتحدة وحلفائها أسطولاً عسكرياً، تضمن بوارج حربية وحاملات طائرات وغواصات.
ولعل حادثة إطلاق الصواريخ لم تكن بهدف استعراض القوة، إنما هي جس نبض واختبار للدفاعات السورية والتهديد بأن توجيه ضربة عسكرية هو فعل مؤكد، الأمر الذي أدى بالروس إلى تقديم اقتراح يتصل تحديداً بوقف الضربة وتطويق منظومة السلاح الكيماوي السوري.
المهم أن الاتفاق أُقرَّ بين قوتين عظميين، ولعله أعاد إنتاج الحرب الباردة بمفهوم النظام متعدد الأقطاب، فقد برزت روسيا كلاعب أساسي في هذه المعمعة، مدفوعة بتحالف قوي من قبل أطراف أخرى مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية وغيرها العديد من الدول.
أيضاً لم يكن بوسع الولايات المتحدة إنجاح توجيه ضربة عسكرية لوحدها، لا على المسرح الدولي ولا حتى خارج إطار الأمم المتحدة، ولذلك كلفها جهد كبير لتوسيع تحالف، عكس إلى حد كبير في كمه وحجمه ارتباكاً أميركياً داخلياً، خصوصاً بعد إخراج بريطانيا من دائرة التحالف الدولي الفعلي لتوجيه ضربة نحو سوريا.
وعلى كل حال، فإن ما قبل وأثناء وما بعد الاتفاق الثنائي الأميركي- الروسي، يبدو أنه رسم ملامح إعادة تشكل النظام الدولي على سلم التعدد القطبي، فالولايات المتحدة لا يمكنها التحرك منفردةً بدون ظهر قوي يسندها، وروسيا الصاعدة، لا يمكنها التحرك إلا بناءً على قاعدة تحالف ترتكز عليه.
هذا كان وما يزال شديد الوضوح في الخلاف الذي تبع الاتفاق والمتعلق برغبة أميركية- فرنسية لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، يستهدف توجيه ضربة عسكرية في حال لم تتخلص سورية من ترسانتها الكيماوية، الأمر الذي ترفضه موسكو.
وعلى ما يبدو أن الأميركيين حريصون على استخدام موضوع السلاح الكيماوي ذريعة لاستهداف الجماعات الإسلامية المتشددة في سورية، فهذه بنظرهم تشكل خطراً وتهديداً حقيقياً على مستقبل إسرائيل ودول الجوار التي تربطها علاقة جيدة بواشنطن، لذلك ما يزال الأميركان والفرنسيون أيضاً، معنيين بتوجيه ضربة عسكرية إلى سورية.
"الخازوق" الأعظم في كل ذلك، هو الخسارة الصافية التي تضاف إلى رصيد العرب وسورية تحت الصفري، فما يزال العرب عنواناً مهماً ومسرحاً للصراع الدولي، وما سورية إلا أداة للأطماع الاستعمارية الانتهازية، ومصيرها مجهول، لكنها بالتأكيد تعاني كما عانت الحرب الكورية من قبل.
في الحرب الكورية قبل أكثر من ستين عاماً، تدخل اللاعبون الدوليون واشتعلت الحرب الأهلية، وانقسمت البلاد إلى كوريتين، واحدة شمالية والأخرى جنوبية، واحتدم الصراع بين البلدين ولم يتمكن أي طرف من هزيمة الآخر.
وفي سورية تتدخل روسيا لحماية مصالحها في المنطقة، في حين تتدخل الولايات المتحدة لتكريس وجودها وحماية أمن إسرائيل وتأمينه لسنوات طويلة، بينما ينقسم العرب هم أيضاً حول سورية، بين دول تهتف وتنتصر لدبلوماسية الحل، ودول أخرى تطالب بتوجيه ضربة عسكرية وإزاحة النظام السوري.
هذا ما حصلنا عليه من الغرب، اختلافات شديدة في الفكر والأيديولوجيا والتوجهات والتطلعات، ذلك أن الخاسر الوحيد من كل هذه المهزلة هي أولاً سورية ومن ثم العرب، وإذا سقطت دمشق فلن نستبعد كثرة السكاكين على ولائم جديدة، لأن تلك المرحلة من شأنها أن تفرز تغيرات وتطورات كثيرة ومؤثرة على مشهد النظام الإقليمي العربي.
الاتفاق الأميركي- الروسي خدم إسرائيل، لأنه سيعني مستقبلاً خلو سورية تماماً من السلاح الكيماوي، وسيعني أيضاً استعداداً إيرانياً لإبداء المرونة والانفتاح مع الغرب، والتفاوض حول النووي الإيراني بطريقة قد ترضي إسرائيل وحلفائها.
أخيراً يمكن القول: إن الاتفاق لم يجنب سورية الحرب، فهو صحيح جنبها ضربة خارجية، إنما الصراع الداخلي يتجه لإسقاط سورية، وليس المقصود النظام أو المعارضة، ففي نهاية المطاف، الشعب السوري وسورية هما اللذين يدفعان ثمن هذه الحرب.
Hokal79@hotmail.com


