إن العنوان مضلل في ظاهر الامر لأن روسيا لم تترك الساحة تماما قط، لكن موسكو فقدت منذ اربعين سنة، بفضل أنور السادات وهنري كيسنجر والانتصار الاسرائيلي في حرب يوم الغفران، أكثر مواقع تأثيرها السابقة في الشرق الاوسط ما عدا سوريا. وهي الآن تعود وبقوة.
ما زال من المبكر أن نوجز تطورات الاسابيع الاخيرة في شأن السلاح الكيميائي السوري، لكن شيئا واحدا أصبح واضحا: إنه أصبح عندنا انطباع، دون أن نقلل من أهمية الاتفاق على إبعاد السلاح الكيميائي الذي يملكه الاسد ومن الاسهام الامريكي في احرازه، أن روسيا هي التي تمسك بالمقود. إن التصورات ولا سيما في الشرق الاوسط تكون احيانا أهم من الحقائق، وتُصور امريكا اليوم في منطقتنا بأنها تابعة لروسيا التي نجحت في إملاء الاجراءات – وليس مهما أن قوة الولايات المتحدة أكبر بأضعاف مضاعفة من قوة روسيا، من جهة موضوعية (واذا لم تسرع واشنطن وتدرك من أفضل ممن في مصر فقد تخسر نقاطا هناك ايضا). قال الرئيس اوباما في خطبته إن امريكا لم تعد تريد أن تكون "شرطي العالم" لكن كل فراغ سيُملأ آخر الامر وروسيا أو الصين قد تحلان محلها.
إن اسرائيل راضية عن مجرد حقيقة أنه أُحرز اتفاق، بشرط أن تُنفذ مواده وشروطه بالواقع. وكان موقف حكومة نتنياهو الدائم أنه ليس لاسرائيل أي مشاركة في الحرب الأهلية في سوريا لكن ينبغي في كل سيناريو محتمل إبطال فعل السلاح الكيميائي الذي تملكه والتحقق من ألا يُنقل الى حزب الله. ولا يجب أن يقلقنا إقلاقا خاصا ايضا التحسن المؤقت لمكانة الرئيس الاسد. وفي مقابل ذلك لم تستطع اسرائيل أن تتجاهل الآثار المحتملة للتحسن السياسي الروسي على الشأنين السياسيين الرئيسين في برنامج عملها وهما ايران والمشكلة الفلسطينية.
فيما يتعلق بايران، يجري في امريكا جدل في أنه هل يجعل الشأن السوري طهران تشعر بأنها أكثر تعرضا للضغوط الدولية بحيث توقف سباقها الذري أم ترى فيما يبدو ضعفا غربيا وفيه "المرونة" الامريكية في شأن "الخطوط الحمراء" ومشاركة روسيا الدبلوماسية الفعالة، ما يشبه "رخصة" بالاستمرار في عملها. ينبغي أن نفرض أن هذا الموضوع قد كان في مركز الحديث بين رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الخارجية كيري في زيارته الخاطفة الى القدس. وفيما يتعلق بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني فان روسيا بوتين لم تبرز الى الآن باجراءات مبادر إليها وهي تكتفي في هذه المرحلة بتكرار أقوال الاتحاد الاوروبي وتوصياته. كان الوضع في الماضي السوفييتي مختلفا لا لأن ستالين وأكثر ورثته رأوا الصهيونية عدوا ايديولوجيا وفعالا بل لأن الكرملين ايضا رأى في عصر الحرب الباردة أن اسرائيل ودول الرعاية الغربية تشبه دمى استعملتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عن جانبي المتراس.
ونبع من ذلك أن الاتحاد السوفييتي وتوابعه دعمت على الدوام الطرف العربي وسلحت جيشي مصر وسوريا ودربت ارهابيين فلسطينيين وأعدت ارهابيين محتملين في جامعة لومومبا في موسكو (درس أبو مازن هناك ايضا). وأيدت امريكا في مقابل ذلك على نحو عام اسرائيل وبصورة حاسمة في حرب يوم الغفران حينما هدد كيسنجر روسيا بدعم من نكسون كي لا تتدخل الى جانب المصريين والسوريين المهزومين.
إن الوضع اليوم مختلف. فبرغم اختلاف في الآراء في موضوعات ما وبخاصة موقف موسكو الذي يتجاهل نحو الخارج على الأقل خطر ايران الذري، يوجد ايضا غير قليل من التفاهم إما علنا وإما تحت السطح. ومن المؤكد أن اسرائيل ليست غير مكترثة، بواحدة من توجهات الدبلوماسية الروسية الرئيسة، أي صد تقدم الاسلام في العالم ولا سيما المناطق القريبة منها. والعلاقات بين موسكو والقدس في مجالات اخرى ايضا حسنة جدا وتخدم الدولتين. وتدرك موسكو ايضا أنه مع كل التغييرات الايجابية في العلاقات بين الدولتين، ستظل اسرائيل في المستقبل ايضا وعلى نحو قاطع لا لبس فيه مرتبطة بأمريكا وبالشعب الامريكي (وبالجمهور اليهودي هناك). ومع ذلك فان اسرائيل تعي امكانية أن مكانة روسيا المحسنة في الشرق الاوسط وبخاصة اذا أرادت استغلال التفوق النسبي الذي هيأته لها المعركة السورية، قد تمنحها ايضا حضورا قويا في القضية الفلسطينية. وسيكون للدبلوماسية الاسرائيلية دور نشيط في السنوات القادمة في هذا السياق.


