أبرزت ثورة الثلاثين من يونيو, ودعم الجيش لها في الثالث من يوليو, نجم الفريق أول عبد الفتاح السيسي كقائد عسكري صلب ومدافع شرس عن الوطنية المصرية. كما أبرزه التفويض الشعبي الواسع في السادس والعشرين من يوليو كقائد كاريزمي قادر علي إلهام المصريين وتحفيزهم, رغم كونه رجلا عسكريا وليس زعيما سياسيا, الأمر الذي دفع كثيرين سواء في الداخل والخارج إلي النظر إليه باعتباره الرئيس القادم لمصر, علي تباين المواقف بين أولئك الذين أسعدهم ذلك فأخذوا يدعون الرجل إلي الإقدام, وأولئك الذين انزعجوا منه فبدأوا يتحسبون له, خصوصا جماعة الإخوان في الداخل والولايات المتحدة في الخارج.
يبدو طبيعيا أن تنزعج الجماعة دفاعا عن نفسها ومصالحها, ولكن الغريب هو انزعاج القوة الكبري الحليفة للدولة المصرية, وخصوصا للجيش المصري. أما الشاذ فعلا فهو توافق الطرفين, المفترض( ظاهريا) أنهما عدوان لدودان, علي معاداة الرجل. اتهمته الجماعة بالانقلاب ولم يكن في الأمر انقلاب بل موجة ثورية أعمق جذورا وأكثر تنورا, وأوسع جماهيرية من موجة25 يناير, التي حسمها الجيش أيضا. أما الولايات المتحدة فلم تسم الحدث صراحة بالانقلاب, ولكنها تصرفت وكأنه كذلك, فأخذت تمارس تصعيدا يشبه نظيره البريطاني الفرنسي إبان العدوان الثلاثي علي مصر عام1956 م, والذي انتهي لصالح مصر سياسيا, وأدي إلي تغيير هائل في توازنات القوة العالمية بالمنطقة لغير صالح الغرب, وأبرز دور جمال عبد الناصر كبطل للوطنية المصرية, ورمز لحركات التحرر الوطني في العالم, الأمر الذي يشي بفقدان الولايات المتحدة نزعتها التحررية والإنسانية التي كانت لها قبل ستة عقود, وتحولها إلي قوة امبريالية تقليدية, كبريطانيا آنذاك, تناقض أحلام الشعوب, عندما تعادي جموع المصريين تذرعا بحقيقة أن محمد مرسي كان رئيسا ديمقراطيا منتخبا, وهو أمر لا ننكره ولكننا نراه مفرطا في بساطته إلي حد السذاجة التي تغطي علي حقيقة أكثر بديهية وهي أن الديمقراطية مستحيلة دون علمانية سياسية, تفصل بين الدين والسياسة, ولا تجعل المقدس الديني مكونا في الصراع علي الدولة, وإلا قادنا الصندوق الانتخابي إلي دولة دينية تتحارب فيها الملل والنحل, تحمي سلطاتها منتسبيها الطائفيين لا جموع المواطنين.
يبدو الأمر غريبا إن لم يدرك العقل الأمريكي هذه الحقيقة التي تبدت تجلياتها في واقعة قتل الشيعة والتمثيل بجثثهم بقرية أبو النمرس, وهي مجرد واقعة افتتاحية يمكن تصور ما بعدها علي قدر بشاعتها فيما لو تمكنت الجماعة من أحشاء مصر. كما يصير الأمر مريبا إذا كان يدركها ويداور حولها, فمعني المداورة أن لديه أهدافا مضمرة تخالف ما يعلنه من ضرورات استقرار مصر وتطورها الديمقراطي, والتي كانت تفرض عليه مساندة خريطة الطريق المصرية, وهو الأمر الذي يقود الكثيرين إلي حديث المؤامرة الذي لم أعول عليه يوما فيما كتبته من عشرات الكتب ومئات المقالات, غير أنني اليوم أشعر بعجزي عن فهم الموقف الأمريكي من دونه, حيث يختفي المنطق الأخلاقي, ويغيب النزوع البراجماتي, وهما معا مطرقة وسندان السياسة الخارجية الأمريكية, فلا يبقي سوي الحديث عن سر خفي يكمن خلف الموقف الأمريكي يراه البعض صفقة مع الجماعة لحل القضية الفلسطينية علي حساب سيناء, وعن أموال أمريكية كثيرة تم استثمارها لذلك الغرض. وقد يكون ذلك صحيحا أو غير صحيح, ولكني أذهب إلي سر آخر( علني) وهو ضغط الهاجس التاريخي علي العقل السياسي الأمريكي, وأعني تحديدا الخوف من صعود قائد وطني كاريزمي يلتف حوله المصريون, يري فيه الأمريكيون ملامح ناصر جديد, ويتوقعون معه مصر أخري, متحررة ومشاكسة, باحثة عن دورها المعطل في قيادة الإقليم, وعن مكانتها المفقودة بين الأمم. يتصور الطرفان أن الرجل يسعي حتما إلي الحكم برغم نفيه ذلك, ورغم شعوري الشخصي أن الرجل جاد في إدارة خريطة الطريق, والعبور التاريخي بمصر إلي ضفاف الحرية, علي نحو يجعل منه( رجل الأمة) وزعيمها الحقيقي دون أن تترجم تلك الزعامة بالضرورة إلي رئاسة سياسية, وهو تصور ينبت لديهما من عمق الشكوك وحدة المخاوف. كما يتصوران, مرة أخري, أن مناكفة مصر, وتعطيل خريطة مستقبلها سوف يعرقل صعود الرجل, لو افترضنا أنه يرغب حقا في القيادة السياسية لمصر. ورغم أنه تطور لا أتمناه الآن, لأسباب كثيرة ليس هذا مجالها, إلا أنه يبقي أمرا مصريا خالصا, لا يستطيع منحه أو منعه سوي غالبية المصريين, مادام جاء عبر صندوق الاقتراع, فأي غرور يهيئ لهما القدرة علي إرغام المصريين علي التخلي عن خياراتهم؟.
شخصيا لا أتصور لهما أي قدرة علي المنع, بل العكس هو الصحيح, حيث يؤدي رفضهما المعلن له إلي التعجيل بحضوره. ولعل التوصيف المعرفي لتلك الحالة العقلية هو ما أسميه الخوف المحقق لذاته, علي غرار التنبؤ المحقق لذاته, فالهدف الذي ربما كان مضمرا لدي الرجل أو مؤجلا لدي المصريين, سيتم التسريع به, والمفارقة أن من يدفع نحوه ليس الطرف الذي يريده بل الطرف الخائف منه; لأنه تصرف وكأنه حقيقة محسومة, فقادت تصرفاته إلي تأزيم الموقف إلي الحد الذي يستلزم سياسات استثنائية, ويستدعي قيادة كاريزمية لاتجد تجسيدا لها سوي في الجنرال القوي, الذي كلما حاول الطرفان تعطيل حضوره تورطا في تقديم مبررات استعجاله عبر صناعة أزمات تجعل حضور القيادات أولي من تنمية المؤسسات, ومواجهة الأزمات أولي من تعميق الحريات, وهو أمر يضر بالجميع, سواء بمصر التي قد تضطر إلي الإبطاء في خريطة التحول الديمقراطي بالمعني الليبرالي العميق. أو بالجماعة التي قد تتعرض للاستئصال ثمنا لتأخرها عن اللحاق بقطار الوطن. أو بالولايات المتحدة نفسها التي ستواجه كراهية المصريين كشعب, وربما تعاني خروج الدولة المصرية من فلك التحالف معها, وهو تحالف كان ممكنا استمراره في صورة شراكة وطنية أكثر عدالة, إلي فلك تحالفات عالمية مناقضة لها, فالأمر الصادم للعقل الأمريكي هو أن مصر تستطيع الحصول علي حلفاء عالميين بسهولة ربما تفوق قدرة أمريكا علي إيجاد حلفاء إقليميين بوزن مصر, ما يعني أن المبادرة الآن صارت بيد المصريين, فإما إبداء الاحترام العميق لهم, وإما الاستعداد لقبول تغييرات كبيرة في أنماط التأثير وأشكال الحضور بهذه المنطقة من العالم.
ـ الأهرام المصرية ـ 15/9/2013


