أنهت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية جولتها الثالثة بعيداً عن الإعلام ودون تسريبات تذكر؛ اللهم إلا الحديث عن أنها كانت بناءة وجادة وحتى صاخبة أحياناً، وأنه تم التوافق على تشكيل سبع لجان فرعية تتعاطى مع القضايا والملفات محل التفاوض، وهي الحدود الأمن القدس الاستيطان المياه الأسرى واللاجئين، على أن يتم إعطاء الأولوية لملفي الحدود والأمن كون التوصل إلى حلول لها يؤدي تلقائياً إلى حسم قضايا وملفات أخرى مثل القدس الاستيطان والمياه.
أمام المفاوضات ثلاث احتمالات لا رابع لها، فأما أن يتم التوصل إلى اتفاق سلام نهائي وحاسم، وهو الخيار الذي يفضله الأمريكيون والفلسطينيون - شرط أن يأتي متطابقاً مع تطلعاتهم، ولو في حدها الأدنى – بينما لا يبدو الإسرائيليون متحمسون لهذا الخيار ويفضلون الاحتمال الثاني المتمثل في التوصل إلى حل مرحلي يلحظ إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود مؤقتة على أن يتم التفاوض على القضايا الصعبة أو شكل الحل النهائي ضمن مدى زمني معين ومحدد، هذا الاحتمال يرفضه الفلسطينيون بشكل قاطع، بينما لا يملك الأمريكيون موقف محدد منه، وإن كانوا لا يعارضونه مبدئياً شرط توافق الطرفان المعنيان عليه. أما الاحتمال الثالث فيتمثل بفشل المفاوضات في الخروج بحل أو اتفاق نهائي أو مرحلي، وهو ما يفضله الفلسطينيون في حالة عدم تلبية تطلعاتهم في الحصول على دولة مستقلة ضمن حدود حزيران 76 مع القدس عاصمة لها وحل عادل لقضية اللاجئين، ولا يرفضه الإسرائيليون خاصة إذا ما ظل نتن ياهو وفياً لقناعاته عن أن الصراع غير قابل للحل، وإنما الإدارة أو المعالجة فقط حسب التعبير الحرفي لحليفه المقرب زعيم حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان.
يؤمن وزير الخارجية الأمريكى جون كيري وفريقه المساعد وتحديداً مبعوثه إلى المفاوضات مارتن أنديك وعلى عكس ما يعتقد كثيرون أن الظروف الإقليمية الحالية مؤاتية تماماً من أجل التوصل إلى اتفاق سلام كون دول عربية عديدة كانت معنية بالشأن الفلسطيني، باتت مشغولة الآن بنفسها ومشاكلها الداخلية ولن تشكل عامل معرقل أو ضاغط على الفلسطينيين. أما في السياق الإسرائيلي فيستغل جون كيري قلق نتن ياهو المتعاظم من العزلة الدولية والذي لا يقل عن مثيله تجاه الملف النووي الإيراني وحسب صحيفة هآرتس فإن الأول أبلغ الثانى أن العزلة السياسية قد تتطور باتجاه مقاطعة اقتصادية شاملة تطال حتى المنشطات البسيطة والبدائية ناهيك عن الملفات الأكثر تعقيداً مثل التعاون الاقتصادي التعليمي الثقافي وحتى الأمني والعسكري، وحسب الصحيفة العبرية فإن نتن ياهو قلق جداً من بعد جوهري آخر للعزلة الدولية يتمثل بتكبيل أيادي تل أبيب وتقييد حركتها في محاربة الإرهاب والدفاع عن أمنها وهذا ما استغله كيري لتطوير معادلة نتانز مقابل يتسهار الشهيرة لتصبح يتسهار مقابل بروكسل أو أن ليس فقط الطريق إلى المفاعل النووي الإيراني الشهير تمر بالمستوطنة الشهيرة، وإنما الطريق إلى بروكسل أيضاً بمعنى أن التخلي عن المستوطنة الأشهر في عمق الضفة الغربية، والتي باتت رمزاً للمشروع الاستيطاني برمته مقابل التوصل إلى اتفاق سلام نهائي، يتضمن إقامة دولة فلسطينية وفق المحددات المقبولة فلسطينياً وعربياً ودولياً ما يخلق أجواء مؤاتية تمنع العزلة أو القطيعة التامة لإسرائيل تسهل من معالجة الملف النووي الإيراني وتؤدي إلى تفهم أي عمل عسكري محتمل ضد طهران في حالة استمرارها في رفض المطالب الدولية تجاه مشروعها النووي وضرورة إبداء شفافية أكبر للتأكيد على سلمية المشروع وعدم تضمنه لأي أبعاد أو جوانب عسكرية.
جون كيري لم يكتف باستغلال هواجس نتن ياهو تجاه العزلة الدولية وإيران وملفها النووي، وإنما عمل بالتوازي على مقاربة هواجس أو متطلبات تل أبيب الأمنية وقام بتعيين الجنرال جون ألان من أجل العمل مع نظرائه الإسرائليين لمعالجتها تلك، علماً أن العنوان العريض للعمل يتمحور حول تفسير أو مضمون مفهوم الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، كما التوصل إلى حل خلاق فيما يتعلق بغور الأردن وإصرار إسرائيل على الاحتفاظ بوجود عسكري فيه ولفترة زمنية طويلة من أجل تأمين حدودها الشرقية أمام أخطار تبدو وهمية في ظل ما جرى ويجري في العراق والمنطقة.
مقابل هذا الجهد أو المزاج الأمريكي يبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي حائراً بين قناعاته الأيديلوجية بأرض إسرائيل الكاملة والسياسية، بأن هذا الصراع غير قابل للحل، وإنما الإدارة فقط والوقائع السياسية المحلية الإقليمية والدولية الضاغطة واستحالة مواجهة إيران وطموحاتها النووية أو العزلة الدولية المتفاقمة ضد الدولة العبرية أو الأخطار والتحديات الأمنية الناجمة عن تفاعلات الثورتين السورية والمصرية بعلاقات باردة أو رؤى متناقضة مع واشنطن وبروكسل والمجتمع الدولي بشكل عام وهو قد يناور كما فعل عند العودة للمفاوضات عبر إعادة تعويم مشروع أرئيل شارون للحل النهائي والقاضي باعتبار جدار الفصل بمثابة الحدود الشرقية للدولة العبرية مع الانسحاب من ثمانين بالمائة من أراضي الضفة والاحتفاظ بوجود عسكري طويل في غور الأردن كما بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وشطب حق عودة اللاجئين عن جدول الأعمال والموافقة بالمقابل على دولة فلسطينية متواصلة ولو مواصلاتياً ومنزوعة السلاح مع سيطرة – ولو غير مرئية على حدوها معابرها وأجوائها، وهو ما أشار إليه صراحة نائب وزير الدفاع القطب الليكودي زئيف الكين، وفي حالة الرفض الفلسطيني المتوقع لهذا السيناريو يتم طرح حل آخر يتمثل بالانسحاب من عشرين بالمائة من مناطق من أجل قيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة على قرابة ستين بالمائة من أراضي الضفة مع تسهيلات أو إغراءات اقتصادية وتأجيل ملفي القدس اللاجئين والحدود النهائية إلى مدى زمني طويل نسبياً يتم العمل خلاله على تنمية الدولة الفلسطينية وتحسين أوضاعها الاقتصادية الاجتماعية وخلق مناخ مؤاتي أكثر أمام التوصل إلى حل نهائي يحسم في القضايا المؤجلة الصعبة والحساسة.
مقابل هذا الموقف الإسرائيلي يبدو الموقف الفلسطيني أكثر وضوحاً، ولكن في اتجاه معاكس لجهة الرفض التام لأي حلول انتقالية أو مرحلية والتمسك بحل نهائي وفق القرارات الدولية والمبادرة العربية أي دولة على كامل حدود حزيران يونيو 67 عاصمتها القدس مع تبادل أراضي بحدود اثنين بالمائة؛ وربما يتم توسيعه ليصل إلى خمسة أو ستة بالمائة وفق طرح رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أهود أولمرت وطبعاً تجمع تجاوز ضمني لملف اللاجئين لصالح العودة المحدودة إلى الضفة الغربية وغزة، مع جهد إقليمى ودولي لتعويض الغالبية العظمى منهم، وتوطينهم، حيث هم أو في مكان ثالث، وربما منحهم الجنسية الفلسطينية مع إقامة دائمة في البلاد التي يتواجدون فيها.
قياساً إلى المعطيات والرؤى السابقة يبدو من الصعوبة بمكان التوصل إلى اتفاق سلام نهائي والاحتمال جد ضعيف أو متوسط في أحسن الأحوال غير أن المفاوضات قد تخلق سيرورة تجعل من الحل المؤقت والمرحلي أكثر واقعية، خاصة من أجل تجنب فشل المفاوضات وانهيار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية كما حصل بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد – الثانية - وطابا أواخر العام 2000 وهنا سيعمد الراعي الأمريكي إلى الضغط المعتاد على الطرف الضعيف، وهو هنا الطرف الفلسطيني تماماً كما حصل عند العودة للمفاوضات الحالية وتحت ضباب كثيف من الضمانات والوعود الاقتصادية والسياسية لدعم الدولة الفلسطينية المؤقتة إلى حين التوصل إلى اتفاق سلام نهائي ضمن مدى زمني محدد وقصير نسبياً.
أمل أن تمتلك القيادة الفلسطينية الشجاعة الشخصية والسياسية لرفض هذا الحل المفخخ والإصرار على تحمل الجانب الإسرائيلي لتبعات تطرفه وتعنته والذهاب إلى الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية لخوض الصراع السياسي الديبلوماسي والقانوني مع إسرائيل لإجبارها على الاختيار بين الحل العادل أو مواجهة عزلة ومقاطعة دولية متفاقمة ستجعل آنذاك من الخيار الجنوب أفريقي أكثر واقعية وجاذبية من خيار الدولتين المطروح حالياً والذي يكاد يكون مثالي لإنقاذ تل أبيب من مأزقها الأيديولوجي الديموغرافي والسياسي أيضاً.
• باحث وإعلامي فلسطيني


