في فهم وتحليل السياسة ومواقف السياسيين والاحزاب والجماعات ثمة بعض المنطلقات والمفاهيم التي تستخدم وتشتغل بفعالية إلى حد معقول. يمكن أن نفهم مثلا ان سياسة معينة تقوم على الايديولوجيا إذ تتبنى مجموعة مبادئ توجه تلك السياسة والقائمين عليها، وتستهدف تطبيق "البرنامج" الايديولوجي المعلن. ويمكن ان نفهم ان سياسة معينة تقوم على البراغماتية حيث تكون المصلحة الضاغطة هي بوصلتها وبوصلة القائمين عليها، وفي حال اصطدام هذه المصلحة مع مبادئ سابقة فإنها تنحاز إلى المصلحة. ونفهم ان سياسة معينة تقوم على المثالية وتلزم نفسها بمجموعة مبادئ وقيم كبيرة وربما غائية وتنزع الى تطبيقها ونشرها (احيانا بالقوة) في سبيل تحقيق صورة المجتمع والعالم المثالي الذي يستحوذ عليها.
وقد يكون الدين (وغالبا المؤدلج والمسيس) هو ما يتم استخدامه كإطار لسياسة معينة، يتم الاحتماء به او توظيفه واستغلاله في الخطاب الذي تعتمده سياسة ما. وقد تكون السياسة المتبعة من قبل دولة، او حزب، او جماعة، او فرد هي خليط من ذلك كله، فتشترك عناصر ايديولوجية وبراغماتية ومثالية ودينية، كلها، او بعضها، لتكون الإطار العام الذي تشتغل فيه تلك السياسة.
كثيرون يرون ان الامر الاساسي الذي يحتل موقع القلب في كل تلك المفاهيم والمنطلقات والايديولوجيات والمبادئ المعلنة او غير المعلنة، المثالية منها وغير المثالية هو المصلحة الضاغطة للاعبين السياسيين. سواء أكان اولئك اللاعبون احزابا ام دولا فإن مصلحة الحزب او مصلحة الدولة وبقاءها هو الشاغل الاكبر والاهم.
كل الادعاءات الايديولوجية والشعارات الكبيرة تُزاح جانبا ويتولى "محرك المصلحة" قيادة السياسة وتوجيهها. ويمكن القول ان جل التسيس الانساني عبر التاريخ كان مُقادا بهذا المحرك سواء اقر بذلك السياسيون ام لا.
وكلما كانت المصلحة عارية وفجة فإنها تتدثر بشعارات اكثر وتزعم اتساقها مع مبادئ معينة، او ان ما يراه الاخرون من انجرافها وراء مصلحتها هو في الواقع لنشر مبادئ معينة او الدفاع عنها.
كل حروب التوسع والغزو واحتلال اراضي الآخرين في التاريخ البشري منذ عهود الفراعنة والاغريق الى الصين والهند والرومان والفرس والمسلمين والاوروبيين كانت تتدثر بالمبادئ، في ما هي خليط من دوافع ومصالح واهداف سياسية عديدة.
في الوقت الراهن هناك الكثير من التسيس العربي الذي يتحدى كل تلك المفاهيم ولا يندرج في اي سياق منطقي للفهم. فهناك اطراف سياسية، احزاب، وجماعات، وحكومات، ودول عديدة تتبنى سياسات ومواقف يصعب تفسيرها وفهمها من منظور اي منطلق من المنطلقات التقليدية المعروفة في فهم السياسة، إذ لا علاقة لها بالمبادئ، او تندرج وفق منطق المصالح، وبعيدة العقلانية والبراغماتية التي تسم السياسة الرشيدة.
يكفي التأمل في جنبات المشهد السياسي العربي، من مصر، الى سورية، الى العراق، الى ليبيا ثم تونس، ومواقف الاطراف الاقليمية، حيث تسود دوافع وعوامل تكاد لا تنتمي للسياسة بشيء لكنها تقود التسيس وتتحكم فيه. ويمكن رصد اكثر من "آلية" تتحكم في التسيس الراهن.
تتربع على عرش آليات التسيس العربي الراهن اللاعقلانية وهي التي تسود معظم الفعل السياسي ورد الفعل.
مراقبة السيرورة السياسية اي من بلدان الربيع العربي تقدم الدليل تلو الدليل كيف ان البعد عن العقلانية يكاد يكون القاعدة المشتركة التي تلتقي عندها معظم الاطراف.
اللاعقلانية هي التي حكمت الوعود والبرامج الانتخابية التي رفعت اسقف التوقعات عند الناس وكأن البلد سيتحول الى جنان وارفة في اليوم التالي للانتخابات.
واللاعقلانية هي التي حكمت سياسة الاحزاب التي فازت في الانتخابات وظنت وكأنها حازت على تفويض كوني بأن تفعل ما تشاء وكيف تشاء. واللاعقلانية هي التي ايضا حكمت سياسة الاحزاب المعارضة حيث اصبح تحطيم الآخر، والذات والوطن معه، هو البوصلة.
واللاعقلانية هي التي حكمت سياسة دول وحكومات كثيرة في المنطقة، إذ تذهب سياسات تأييد هذا الطرف، او معارضة ذلك الطرف، إلى الحد الأقصى الذي لا تأني معه ولا تبصر. وفي جو سياسي تتسيده اللاعقلانية سيكون المنتج الاكثر رواجا هو التوتر والدفاع المستميت عن النفس، لأن كل شيء يدخل في صراع صفري، موت او حياة.
في السياسة اللاعقلانية تغيب البراغماتية التي تعتمد اللقاء في منتصف الطريق، والتي تحسب حسابات الربح والخسارة بدقة، تتقدم حيث يفسح المجال، وتتراجع حيث تضغط الظروف. في السياسة الراشدة والمصلحية التي بوصلتها مصلحة الطرف السياسي، حزبا ام حكومة، تكون المساومة واللقاء في منتصف الطريق بين الاطراف هي السياسة الهادية، وليس الحرد، والانتقام، وإدارة الظهر كلياً.
ويكون الانشغال في توسيع مربع الاصدقاء وتقليل الاعداء اوتحييد ما امكن منهم. على العكس من ذلك رأينا "إبداعات" حزبية وحكومية واقليمية في ممارسة سياسات تزيد من الاعداء، وتقلل من الاصدقاء، من دون اي تسويغ او ضرورة لذلك.
ورأينا كيف ان التراجع عن خطوات او سياسات مدمرة لا يمكن ان يتم، حتى لو جلب الدمار والحطام على الذات، الحزبية او الحكومية، ناهيك عن الوطن.
لهذا تسود الحيرة وسط الرأي العام، حتى في الشرائح البسيطة منه، حيث تسير امور السياسة على الضد من اي منطق سليم وتكون مرئية تحت الشمس وفي رابعة النهار، لكن الطرف المعني يكون قد ركبه العناد والتصميم اللاعقلاني.
لكن ذلك العناد والتصميم اللاعقلاني يحتاج إلى دوافع ومحركات اضافية حتى يواصل حركته التدميرية، وهنا تتدخل الغرائزية والانتقامية لتوفر الوقود المطلوب. وهنا تتم عملية استدعاء تقاليد الثأر والانتقام التي لا تنتسب لا إلى العقل ولا المنطق ولا العصر الحديث.
فالحس الظافري يتقولب في عقلية قبلية ثأرية لا ترى شرعية في الحياة السياسة إلا لصاحبها، وتريد إقصاء كل الباقيين. وتتبادل الاطراف مواقع الجلاد والضحية كما في لعبة الكراسي الموسيقية، والكل يتلطى بخطاب الضحية، والكل مشحون بغريزة الانتقام، والكل يريد للخصم، مهما كان كبيرا أو صغيرا، ان يختفي عن ارض الوجود، وينخرط في عملية إقصائه بكل جهد ممكن، حتى لو ادى ذلك إلى فنائه ذاته.
"عبقرية" تسيس اللاعقلانية والانتقامية انها تدمر صاحبها والاخرين معاً، ويسقط الحطام على رأس الوطن والناس والشعب المسكين.
Email: khaled.hroub@yahoo.com


