مر بعض من الوقت كما لو أننا وحدنا بين شعوب جيراننا من نزلت علينا السكينة والرحمة، الأكثر حكمة وتعقلاً واقل طيشاً، وحيث الشعوب أيضا تمر بحالات من المراهقة والطيش، بينما تشتعل الحرائق المجنونة من حولنا، من كل حدب وصوب من العراق الى سورية ولبنان وأخيراً مصر المحروسة ومن ورائها ليبيا وصولا الى تونس. وكأن حمى من السماء او غضبا الهياً ضرب فجأة كالزلزال كالصاعقة هذه الدول العربية المحيطة بنا من الشرق الى الغرب. فجأة وسط هذا الصخب وحمى البراكين وجدنا انفسنا كما لو اننا وحدنا نحن العاقلين، بل قل ربما بدا كما لو اننا بانتقال المشتري، الإله جوبتير الى برج السرطان، لسنا عاقلين فقط وانما محظوظين بتفرغ رئيس أميركا ووزير خارجيته جون كيري فقط من بين كل هذه الحرائق والملفات، لإطفاء جذوة حريقنا المزمن نحن والإسرائيليين. وحتى على محور الانقسام الداخلي بدا كما لو أننا اقرب الى تغليب الميل للمصالحة وخفت او تلاشت تقريبا لغة السجالات الداخلية السابقة.
هكذا بدا لوقت كما لو ان الإله الأعرج مارس إله الحروب والنكد والمشاجرات، وقد أمضى وقتا طويلا في التنكيد علينا، قد أشفق علينا او مل منا أخيراً وبدأ يبحث عن زبائن آخرين، حتى بدا صائب عريقات وتسيبي ليفني في الصورة متناغمين. والراعي الأميركي راعي البقر القديم بينهما يسوقان القطيع معا الى بئر الماء ليشرب الجميع من البئر. في رحلة تستمر فقط 9 شهور وتنتهي القصة الحكاية بالخاتمة السعيدة بانتصار راعي البقر كما في افلام هوليود على كل الصعاب.
جميل ايها الفلسطينيون ان تكونوا عاقلين وحكماء وناضجين الى هذا الحد، فاذا كان كل ما حولكم ينهار ويحترق فليساعدكم الذكاء ان تحاولوا بأي ثمن النجاة بأنفسكم، من ان يمتد اليكم الحريق، وان تحتفظوا على الأقل بهدوئكم والسكينة ريثما تمر العاصفة، وان تكتفوا اللعب بأوراقكم أطواق نجاتكم دون ان تزجوا بأنفسكم او تقتربوا من قلب العاصفة، وهذا ما بدا أنكم تفعلونه.
لكن واأسفاه فإن هذا الوقت المستقطع، لم يدم طويلا. فلم يكن ممكنا ان نكون واقفين والعرب راكعين، وما كان لنا ان نكون بخير وبصحة جيدة بينما العرب يحترقون ويقتل بعضهم البعض الآخر، وما كان لنا أخيرا ان نحافظ على سلامة عقولنا بينما العرب يفقدون عقولهم ورشدهم ويبلغون هذا المنحدر من الجنون. ولأجل ذلك كله لم نتأخر نحن ايضا اللحاق والركوب بالقطار والبدء بارتكاب الأخطاء التي تبدو لي من ذات الصنف والنوعية، اي من قبيل الأخطاء الساذجة والحماقات.
وكانت سلسلة هذه الأخطاء المنكودة بدأت في تقدير الموقف الاستراتيجي اولا من الأزمة السورية، بحيث لم تكن هناك رؤية موحدة في إدارة الموقف الفلسطيني الإجمالي، من هذه الازمة وغياب فادح بل كارثي على المستوى الاستراتيجي في دور فلسطيني في التأثير عليها . وبدا الاتفاق الوحيد هنا بين فتح وحماس هو التسليم بالقيادة القطرية، والتحالف المعادي للمحور السوري الإيراني الروسي وحزب الله، كلاعب وحيد. ولكن مع فارق هنا بدأ يلعب بصورة معاكسة لحركة حماس، التي كانت محسوبة على محور دمشق، حينما بدا ان النظام السوري عصي على السقوط او الانكسار، فان حماس هي التي ظهرت وكأنها أقدمت على مخاطرة غير محسوبة وخسرت الرهان.
لكن الحظ السعيد بالنسبة لحماس كان قد تحقق او جاء هذه المرة ليس من انتصار الأخوان في سورية، وانما في مصر الكنز الأكبر. وسرعان ما بدا عند هذه النقطة ان المحور المصري القطري التركي الحمساوي هو رباعي الدفع الجديد في المنطقة، وبالتالي كانت حماس هي الرابح الكبير.
لكن فجأة كما لو في سماء صافية قرر الأمير القطري ووزير خارجيته الذي كان يجمع العرب ويقودهم، الاعتزال والترجل عن الحصان في ذروة الدور والمعركة . فهل كان هذا الانسحاب في التوقيت هو التمهيد الفعلي لحدوث انقلاب 3 تموز على محمد مرسي ونظام الإخوان في مصر ؟ والبدء فعلا بالعودة الى طاولة المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين ويحرك هذه النقلات عقل ماكر كبير؟
ايا يكن الجواب فان حماس عند هذا المنعطف بدا كما لو انها تلقت ضربتين في الرأس، وبعد الإطاحة بمرسي وغياب الأمير بدا لو ان رجب طيب أردوغان وحماس تركا وحدهما في الميدان، وبينما اشتدت الحملة الإعلامية المصرية على حماس وغزة واغلق معبر رفح بدا تحليق الطائرات المصرية في سماء غزة كما لو ان الخناق من جديد يشتد على حماس وغزة. وهنا لم يتأخر الرئيس محمود عباس في الإسراع بالاعتراف بالنظام الجديد، لنعود مجددا عند هذه اللحظة الى السجالات القديمة وطفت على السطح كما في العالم العربي كمية المشاعر والعواطف القاسية المختزنة في القلوب.
اتهمت حماس فتح، هكذا فتح بالمجمل، أنها تقف وراء حملة التحريض عليها في مصر، وعرضت وثائق قالت إنها عثرت عليها في حاسوب احد أعضاء فتح وردت فتح بان هذه الوثائق مزورة وان مصر ليست بحاجة لمساعدة احد لمعرفة ما يحدث داخل غزة، وهكذا القي بالمصالحة مرة اخرى في هوة بئر عميقة، ولكن هنا لابد ان نسجل بعض الملاحظات :
1- بالرغم من ان الفلسطينيين كليهما فتح وحماس لم يقفا مع النظام السوري في أزمته، الا اننا لم نشهد اي تحول في الخطاب السوري الإعلامي او السياسي سواء على المستوى الرسمي او النخبة الثقافية تجاه الفلسطينيين بما في ذالك حماس على وجه الخصوص، مقارنة بالحملة الإعلامية التي تنطوي على الكراهية ضد الفلسطينيين التي قام بها بعض الإعلاميين في مصر، وهي حملة خطيرة غير مسبوقة في نبرة العداء التي تبثها. ولذا فان الرد الوحيد على هذه الحملة كان ولا زال هو مسؤولية وطنية فلسطينية بالدرجة الأولى، وليس مسؤولية حماس او طرف فلسطيني واحد. وهذا برأيي ماكان على حماس ان تفعله بان تجري نقاشا مع الرئيس ابو مازن وحركة فتح حول هذه المسألة باعتبار ان الكل الفلسطيني متضرر منها، والتدخل او التحرك السياسي لوقفها او مراجعة الجهات المعنية في مصر هو مسؤولية الجهة الرسمية الفلسطينية المسؤولة، اي المنظمة والرئيس ابو مازن. وقد دعوت شخصيا هنا في تحليل أبعاد هذه الحملة في الى ان الحل هو الرئيس، وكان هذا يعني الدعوة الى إظهار هذه المسؤولية التضامنية المشتركة كفلسطينيين موحدين في مواجهة تداعيات الأزمة والاستقطاب الحاد في مصر باعتبار ذلك هو الخيار او الجواب الوحيد وما يساعد أيضا في ترتيب الأجواء السياسية والنفسية لإنجاح المصالحة بالتأكيد على عنوان واحد للفلسطينيين هو الذي يتحدث باسمهم جميعا ويدافع عن مصالحهم.
2- ان ما جاء في مضمون الوثائق التي كشفت عنها حماس اذا كان صحيحا هو امر خطير وهو يستدعي في كل الأحوال تشكيل لجنة تحقيق فلسطينية مستقلة، للتأكد من صحة هذه الوثائق وهو امر لا يرفضه احد من الفلسطينيين بما في ذالك فتح نفسها. ولكني ارى ان الأخوة في حماس يجب ان يبتعدوا بالمطلق عن توجيه الاتهامات على إطلاقها لحركة فتح، كحركة بشموليتها وكليتها، هكذا في الخطاب الإعلامي وهو خطأ ما كان يجب الوقوع به لأنه باعتقادي لا يمكن اتهام فتح كحركة بكليتها حتى في حال صحت هذه المعلومات عما ورد ذكره فيها. لان فتح في الاتجاه السياسي الإجمالي العام لا يمكنها ان تنزلق الى مثل هذه الألاعيب الخطرة والتي لا يستفيد منها سوى إسرائيل وأعداء الفلسطينيين، وهنا خطورة اتهام الحركة ككل بالمطلق في تعزيز الانقسام والكراهية والخصومة والانقسام بين الفلسطينيين وبرأيي ان الموقف الحصيف هنا كان يقتضي إرسال هذه الوثائق الى اللجنة المركزية لحركة فتح وقيادة المنظمة والرئيس والفصائل الفلسطينية للتحقق منها واتخاذ الموقف إزاء ما ورد فيها.
3- والراهن اي في التحليل أن حماس ربما سارعت الى الكشف عن هذه الوثائق لكبح وفرملة الحملة ضدها في مصر وقد شعرت انها تحشر في الزاوية، ولكني اظن انه بالنهاية يجب علينا ان نستخلص درسا وحيدا مما يجري حولنا، وهو اننا نوجد في قلب عاصفة ووسط حرائق تشتعل من حولنا ويجب علينا ان نعلم انفسنا كيف نحافظ معا على البيت الفلسطيني بمنأى عن هذه الحرائق والعواصف في وضع غير مستقر وشديد التقلبات. وعلينا كلينا حماس وفتح معا التوصل الآن الى الاستنتاج الوحيد الذي يظهر على الحائط وهو اننا منفردون لا نستطيع مواجهة تداعيات هذه الزلازل. وخوفا على غزة اليوم كما الضفة يجب ان نخرج معا من المعادلة الصفرية وان نجد طريقا جديدة لان نربح معا والاتفاق بيننا .
4- والمطلوب مجددا هو ان ننأى بأنفسنا عن الاستقطاب الجاري اليوم في مصر وفي خلاصة التقدير للموقف هذه أزمة تتسم بحركية عالية وهي لا زالت في اوج تصاعدها ولم تحسم بعد وليس من المتوقع حسمها قريبا ولنرى ان العالم برمته يتخذ موقفا مترقبا ازاء حسم موقفه من هذه الأزمة. والتدخل الوحيد الممكن الايجابي لنا في هذه الازمة هو رد الجميل لمصر بالتوسط للمصالحة بين طرفي الازمة، لاننا الخاسرون معا فتح وحماس من استمرار وتصاعد هذه الازمة وصولا لا سمح الله الي الاحتراب الداخلي. وكل عام وانتم بخير.


