ثمة ربط بين عودة المفاوضات التي أعلن عنها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وبين المصالحة الفلسطينية الداخلية، التي تتأثر بالتأكيد سلباً لا إيجاباً بهذا المسار التفاوضي، الذي تنعكس تداعياته أولاً وأخيراً على الشعب الفلسطيني.
دعونا نتفق على أن مصطلح إدارة الصراع يتناسب تماماً مع عودة المفاوضات ومع حوار المصالحة الداخلية الذي طال عمره ولم يحقق خلاله المتخاصمون نتائج إيجابية تشيع التفاؤل عند جمهور الفلسطينيين، باستثناء عقد الحوارات والجمعات السفسطائية.
القيادات الفلسطينية متمأزقة وقد تصيبها اللعنة من شعبها الرافض لكل أشكال الصراع الداخلي، ومع ذلك لا يستوعب القائمون على تسيير أمور الناس، أن قمع الحريات من شأنه أن يستفز مشاعر الفلسطينيين، سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية.
قبل أن نعرج على ملف المصالحة الداخلية، لابد أن نشير في هذا الإطار إلى أن سلطة "حماس" في غزة فقدت عقلها، وعلى الأرجح أن السلطة الفلسطينية في رام الله، تسير على هذا المنطق الأعوج، فما يجري في هاتين الجغرافيتين لا يحتمل السكوت.
قبل عدة أيام أغلقت قوات تابعة لحماس مكتبي قناة العربية ووكالة معاً في قطاع غزة، وهي مؤسسات إعلامية وصحافية تتمتع بثقل إعلامي ولديها متابعوها من مختلف الجمهور والقراء، ومع ذلك جرى إغلاق هاتين المؤسستين لأسباب تتعلق بنشر أخبار مغلوطة وعارية عن الصحة.
ألا يشكل ذلك مؤشراً خطيراً على قمع الحريات، بينما كان يمكن معالجة الموضوع بعيداً عن المنع من مزاولة العمل وإغلاق تلك المؤسسات؟ إنه بالتأكيد فصل من فصول قمع ومصادرة حق المؤسسات والأفراد في ممارسة العمل الإعلامي.
مشكلة بعض فصائلنا أنها لا تؤمن بالتعددية السياسية والإعلامية، وقبول الآخر من زاوية النقد البناء، فعلى سبيل المثال لو خرج الشباب في غزة رافضاً عودة المفاوضات، لما قمع من جانب سلطة غزة، في حين لو خرج هؤلاء إلى الشوارع مطالبة بإنهاء الانقسام أو رفضاً لسياسات حماس، لكان الوضع مختلفاً.
ولعل هذا الحال مشابه إلى حد كبير بوضع السلطة في رام الله، هذه التي اقترفت خطأ جسيماً بقمع مسيرة للجبهة الشعبية أصيب خلالها متظاهرون، لكونهم نددوا بالمفاوضات ورفضوا استئنافها. أليس من حق الجمهور التظاهر والتنديد طالما وأنهم يعبرون عن رأيهم بكل مظهر حضاري وسلمي؟
لابد أن يعرف العالم والمجتمع الدولي أننا لسنا راضين عن عودة المفاوضات، كونها تهضم حقوق الشعب الفلسطيني، وكونه جربها لعشرات السنين، دون أن تحقق له الحد الأدنى من تطلعاته، وكان مفترضاً على الأجهزة الأمنية في رام الله، كف الأذى عن المتظاهرين وانتظار فض التظاهرة طوعياً.
والحقيقة أن هذا التصرف غير المحسوب والأهوج، لا يشير إلى أدنى مسؤولية وطنية، لأن الناس مكبوتون سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وينبغي على القيادة السياسية أن تستوعب هذا الوضع وأن تنفس عن هؤلاء وتمتص غضبهم بالسماح لهم بالتعبير عن وجهات نظرهم، طالما كانت تظاهراتهم سلمية.
نعود إلى موضوع الربط، نعم هناك ربط بين عودة المفاوضات والمصالحة الداخلية، وبين هذه الأخيرة وبين السلوك البدائي الذي تبديه أطراف الصراع الداخلي، ففي حضور المفاوضات ستتعكز حماس على موقفها الرافض لاستئنافها، واعتبار ذلك كما نسب إليها مؤخراً، على أنه يشكل "خطوة منفردة ومعزولة وتتجاوز الإجماع الوطني".
"حماس" التي قالت هذا الكلام ستتحسب كثيراً في خطواتها قبل أن تضع يدها بيد نظيرتها فتح، لذلك فإن الحديث عن مصالحة أو آفاق لأي مصالحة، هو مجرد حديث يكثر أو يقل في الفضاء، إنما لا تبشر الأوضاع بخير لإنجاز اتفاق حقيقي.
ثم إن حماس قررت فتح النار على السلطة في رام الله، حين نشرت وثائق قالت إنها تكشف عن جهد لافت لجهاز المخابرات الفلسطينية، يثبت تورط حماس في ملف سيناء، وعلاقتها القوية مع الجماعات السلفية هناك، وتورطها في ملف خطف الجنود المصريين وقتلهم.
وبصرف النظر عن مدى صحة قول الحركة وهذه الاتهامات، إلا أن ذلك لا يشير سوى إلى تنامي العداء والخصام بين كل من فتح وحماس، وعلى الأرجح أننا مقبلون على محطة صعبة من الحرب الباردة بينهما، وربما إجراءات أحادية الجانب من قبل طرف ضد الآخر.
يضاف إلى ذلك، أن من يتعامل باستعلائية وفوقية مع شعبه، وبهذه الطريقة غير المحترمة التي تهدد وتصادر حريته في التعبير عن موقفه ورأيه، لا يؤسس لمستقبل واعد يخدم القضية الفلسطينية برمتها، ذلك أننا بحاجة إلى من يضع الشعب الفلسطيني فوق كل الأجندات والمصالح الفئوية والخاصة.
لقد أطلق الرئيس محمود عباس تاريخ الرابع عشر من آب المقبل، موعداً لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتحديد انتخابات عامة تجرى سواء بموافقة "حماس" أو بعدم الموافقة، وعلى الأرجح أن في هذا الموعد قول فصل وتحديد للعلاقة بين الحركتين المتخاصمتين.
وطالما أن الشارع الفلسطيني ما يزال إلى اللحظة لاعباً غير رئيسي في الصراع الداخلي، فلعله سيتم تجاوز تاريخ 14 آب دون أن تتفق الحركتان، إنما الجديد يتصل بتسخين حالة الصراع وإلغاء أو نسف الكثير من القضايا المتفق عليها سابقاً.
وحده فقط الشعب هو القادر على أن يكون اللاعب والفاعل الأساسي في المفاوضات المباشرة وفي مفاوضات حماس وفتح، ووحده هو من يقرر بل ويفرض المصالحة على الفرقاء، إنما يعيش مرحلة من التوتر، على الأغلب أنها ستنتقل إن عاجلاً أم آجلاً إلى الانفجار.
لكن حتى اللحظة، ليس هناك ما يدعو للتفاؤل، لا على سكة التفاوض المباشر مع إسرائيل، ولا على سكة الفعل الفلسطيني المشلول بضعف السياسة العامة والاقتصاد، ولا على صعيد اتفاق المصالحة الذي ينهار تدريجياً، وإن لم يحسن الفرقاء إدارة الوضع الراهن بوطنية ومسؤولية عالية، أقله تحقيق انفراج في سكة واحدة من تلك السكك، فلعلنا مقبلون على مرحلة صعبة غير معروفة تداعياتها.
Hokal79@hotmail.com


