يبدو أننا كفلسطينيين نستحق ما نحن عليه، فلا السياسة تدار على أصولها، ولا القيادات السياسية تستفيد من تجاربها ومن تجارب الآخرين. إذا كان الثبات الطويل على السياسة ذاتها، يخالف قواعد العمل السياسي الذي يعج بالحيوية والتغير التكتيكي، فإن السياسة القائمة على مخالفة رغبات الرأي العام، وتتناقض مع مصالحه، وتطلعاته هي سياسة لا تنتج إلا المزيد من الترهات أو خوض غمار مغامرات غير محسوبة.
لابد أن تدرك القيادات السياسية التي تتربع على عرش القرار، بأن الشعب الفلسطيني لا يستطيع مواصلة الصبر طويلاً، وبأن رياح التغيير التي تجتاح المنطقة العربية، لابد وأن تمر على الوضع الفلسطيني. لقد خرجت الجماهير العربية إلى الشوارع تنشد الحرية والكرامة، وتثور ضد الثبات الذي لا يراعي مصالح الشعوب، فكيف والشعب الفلسطيني يئن تحت وطأة سياسات إسرائيلية مخادعة تقوم على مصادرة كل حقوق الشعب الفلسطيني، وسياسات فلسطينية تغادر بانقسامها وضعفها، أبسط متطلبات الصمود والتصدي للمخططات الإسرائيلية الاحتلالية والإلغائية؟
نفهم أن القيادة الفلسطينية تتحرك على قاعدة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأنها حبست نفسها في خيار التفاوض، مع أن ثمة ضرورة للتغيير والبحث عن خيارات واقعية أخرى، ونفهم أن الانقسام كان يستجيب في ظروف سابقة لتطلعات حزبية فئوية ضيقة، لكننا لا نفهم أين هي المصلحة في تكميم الأفواه وقمع الحريات، والتصادم مع التطلعات الشعبية.
القيادة التي تذهب إلى المفاوضات بقرار مسبق، وبدون غطاء وطني، ترفض أن يخرج المعارضون، بل تقمع هؤلاء المعارضين الذين أرادوا أن يسمعوا صوت الشعب للمجتمع الدولي وللمحتل الإسرائيلي، ومفاده أنهم لا يعارضون حلاً يحقق للشعب الحد الأدنى من حقوقه، وإنما يعارضون مفاوضات أكدت تجربة عشرين عاماً مضت، وتؤكد السياسات الإسرائيلية والمواقف الأميركية، أنها لن تنتج للفلسطينيين شيئاً.
لست أعلم ولا نظن أن أحداً من المستوى القيادي الرسمي، يعلم أو يعتقد بأن الجبهة الشعبية أو غيرها من فصائل العمل الوطني، تدبر انقلاباً على السلطة أو على المنظمة، حتى تتم مواجهة مظاهرة سلمية لا يزيد عدد المشاركين فيها على المئات، بهذه الطريقة القمعية.
بل أظن أن أبسط قواعد العمل السياسي، تستوعب وتتطلب في كثير من الأحيان إظهار أن الشعب الفلسطيني غير راض، ويرفض الأسس التي تقوم عليها المفاوضات، التي نعتقد أيضاً أن القيادة السياسية غير راضية عنها. فمثل هذا النشاط من شأنه أن يعزز قدرة المفاوض على مجابهة الخصم.
في زمن مضى، وفي إحدى جلسات المجلس الوطني الفلسطيني، كانت جبهة الرفض الفلسطينية حادة في التعبير عن موقفها ضد برنامج النقاط العشر، الأمر الذي أزعج الكثير من مندوبي حركة فتح حينها، الذين واجهوا الحدة الكلامية بحدة كلامية.
فوجئ الجميع حين رفع الشهيد القائد صلاح خلف (أبو إياد) يده للحديث، وكان الرافضون يتوقعون أن يصدر عنه ما يشدد لهجة المواجهة، فما كان منه إلا أن قال، "لو لم تكن هذه المعارضة موجودة لكان علينا في حركة فتح أن نخلق مثلها".
كان الشهيد أبو إياد والعدد الأكبر من قيادة "فتح" يدركون مدى الحاجة لوجود معارضة قوية، فمثل هذه المعارضة تقوي السياسة الرسمية، وتتيح لها مجالاً أوسع للمناورة، وإتباع تكتيكات سياسية تخدم القضية الفلسطينية.
قيادة حركة فتح تدرك تماماً أن كل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، لا تؤمن بالعقلية الانقلابية، وقد أثبتت التجربة الطويلة الماضية منذ اندلاع الثورة الفلسطينية، أن الكل مؤمن بخوض التناقض وحتى الصراع من داخل منظمة التحرير الفلسطينية وعليها، وأن كل ظواهر وأطر المعارضة من جبهة الإنقاذ إلى جبهة الرفض، لم تمس بمنظمة التحرير وبوحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني.
وأذكر في هذا الإطار أيضاً أن حجم الخلاف داخل المنظمة عشية انعقاد الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني في الجزائر، كان واسعاً وجذرياً، حيث ارتبط بالموقف من قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338، ومبادرة السلام الفلسطينية، لكن حين أعلن الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات قيام دولة فلسطينية، وهتف أعضاء "فتح"، "ثورة ثورة حتى النصر"، وقف المرحوم جورج حبش ممسكاً بيد أبو عمار، يهتف، "وحدة وحدة حتى النصر".
لماذا إذاً تجري مخالفة قواعد السياسة والمصلحة الوطنية ومخالفة التاريخ، فتكون رسالة النجاعة الأمنية، أهم وأعلى من رسالة النجاعة الوطنية والديمقراطية؟ أين الحكمة في أن يتصدى رجال الشرطة والأمن للمحتجين على المفاوضات بهذه الطريقة التي تدل على أصالة مبدأ الاحتكار السياسي، وعلى أن كرامة القيادة فوق كرامة الشعب؟
في الواقع ليس غريباً أن يتشابه السلوك في الضفة وغزة، فهنا كما هناك تخشى القيادات المسيطرة من انطلاق صوت الشعب، ويجري تكميم الأفواه، وقمع المخالفين، سواء بدواعي تغييب الكل هنا وهناك، أو بدواعي إظهار القدرة على السيطرة الأمنية، أو بدواعي إرغام الآخرين على قوانين لم يقررها الشعب، أو حتى بدواعي الخوف من الحركة الجماهيرية.
على أن الغريب والمستهجن أن يجري كل ذلك فيما صوت الحكمة والعقل، والتدبر السياسي، يتوقع من كل الأطراف الفلسطينية الانفتاح على الآخر، وإبداء الاستعداد للمراجعة والنقد، ورفع صوت التسامح والمصالحة، واتخاذ مبادرات، تؤدي إلى تغيير واقع حال الفلسطينيين.
ففي الوقت الذي تضج فيه المنطقة العربية بعمليات التغيير وبأشكال وأساليب مختلفة، يتفاءل ويتأمل الفلسطينيون ألا يضطروا إلى الخروج للشوارع مطالبين بإنهاء الأوضاع الشاذة التي يعانون منها.
حين يقرر الناس الخروج إلى الشوارع، لن تتمكن لا الأجهزة الأمنية ولا الشرطية ولا الأسلحة من الصمود أمامهم، فهم أيضاً جزء من الناس، وهم بشر يستشعرون الصواب والخطأ، وهم وطنيون لم يحملوا السلاح إلا لخدمة الشعب وضد الاحتلال.
وأخيراً، ألا تعتقد القيادات التي تسيطر على القرار، أن أصغر فصيل بإمكانه أن يفشل أي تجربة أمنية، وأن الاستقرار الداخلي رهن بالتوافق الوطني الذي ننتظر مع كل الناس، أن تتوجه بصدق وإخلاص لتحقيقه؟ وبالمناسبة فإن الحديث عن معالجة الأحداث التي تتصل بالتجاوز على الحريات، من خلال لجان التحقيق، هو أمر أكثر من كلام فارغ، فالزمن القريب مليء بمثل هذه الحلول الخائبة، التي تنتهي بطي الملفات، وإحالة الخلل إلى المجهول، والأساس يتعلق بالسياسة، وفي انتظار سياسات تحترم الإنسان، وتلتزم الديمقراطية، فإن على القيادات أن تتحسب جيداً لغضب الجماهير.


