فوجئت كما الكثير من المنخرطين في الهم الوطني، بقرار النائب العام لدى الحكومة المقالة في قطاع غزة، الذي قضى بإغلاق مكاتب وكالة معاً الإخبارية، وقناة العربية، وإحدى الشركات الإعلامية، ولم أجد فيه إلا سباحة ضد التيار، وفعلاً عصبياً، يتناقض مع الدعوات التي لا تنقطع حول الحقوق والحريات.
في كتاب إغلاق المكاتب لم أجد من المسوغات والأسباب ما يبرر هذا الفعل، حتى لو كانت هناك بعض الأخطاء غير المقصودة، أو حتى السياسات والانحيازات المقصودة كما هو حال قناة العربية، التي تقف بالضد تماماً من قناة الجزيرة، إذ تناصر الأولى حركة الجماهير المصرية المناصرة للإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي، فيما تقف الثانية بالباع والذراع مع الحركة الجماهيرية التي تدعو إلى عودة الرئيس مرسي إلى كرسيه الرئاسي.
مهما كان الغيظ إزاء "العربية" من مناوئيها، أو كان إزاء الجزيرة من مناوئيها، فإن لا شيء يبرر الإقدام على اتخاذ عقوبات من هذا المستوى ضد أي وسيلة إعلامية، إلا بالقانون، ولأن القانون هو الغائب فإنني لا أجد ما يبرر هذا الفعل.
كنا نعتقد بأن القيادات السياسية، ستبادر فور وقوع أحداث كبرى وضخمة كما هو حال الحدث المصري، إلى وقفات تقييمية، وذلك من باب الضرورة وليس الصدفة، وبهدف استخراج الدروس، حتى لو اقتضى الأمر إجراء تغييرات جذرية على التكتيك السياسي، حرصاً على الالتزام بالمصالح الوطنية، وحتى لو كان ذلك من باب الحرص على المصالح الحزبية الفئوية، لكن هذا على الأرجح لم يقع.
نعلم كم يتداخل الوضع الفلسطيني مع الوضع المصري أساساً ومع الأوضاع العربية عموماً، لكن إزاء أحداث وتغيرات كبرى، ينبغي توخي الحذر والدقة، والأفضل أن نترك للشعب المصري وقواه الوطنية والإسلامية، أن يقرر مصيره بنفسه، ذلك أن أي تدخل فلسطيني إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، من شأنه أن يلحق ضرراً بليغاً بالقضية الفلسطينية.
أشير بذلك إلى كل من يؤيد هذا الطرف أو ذاك، سواء أكان ذلك بالقول أو بالفعل، وأعود هنا وأكرر جملة بليغة قالها أحد الثوريين وهي أنك حتى تكون قومياً أو أممياً أو إسلامياً جيداً لابد أن تكون أولاً وطنياً جيداً.
ووفق منطق الإسلام فإن خيركم خيركم لأهله وفي الأمثال الشعبية الدارجة يقولون "أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب". في مرحلة الغليان والاضطراب العربي الكبير، والذي ينعكس على الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، كنا وما نزال نتوقع من قياداتنا السياسية أن تتقدم بمبادرات جادة وحقيقية لإعادة إصلاح وترميم الوضع الفلسطيني الذي يصيبه خراب كبير، ويحتاج إلى أكثر من زلزال، نتمنى أن يأتي ذاتياً وطوعياً وعن قناعة من قبل القيادات السياسية قبل أن يأتي من الشعب الذي يمور غضباً.
ثمة قضايا كثيرة مطروحة على بساط اللحظة السياسية، وتحتاج إلى مبادرات ترتقي إلى مستوى المسؤولية الوطنية، مما يستدعي استراتيجياً على القدر ذاته من المسؤولية والجدية. على رأس قائمة الأولويات يقف ملف المصالحة الوطنية التي طال انتظارها والتي تصر حركة فتح أن استحقاقها قد اقترب بناءً لما سبق أن اتفق عليه الطرفان في القاهرة.
أسبوعان فقط يفصلاننا عن الرابع عشر من آب، كموعد لصدور مرسومين، الأول بشأن تشكيل حكومة الكفاءات الوطنية والثاني لتعيين مواعيد الانتخابات التشريعية والرئاسية، وافترض أيضاً انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني.
مصادر خاصة تفيد بأن حركة فتح مصممة على تنفيذ هذا الاستحقاق الذي لا يحتاج إلى حوارات جديدة وفق المصادر ذاتها، فإن وافقت حركة حماس على ذلك وتعاطت إيجابياً، فهذا خيار جيد، أما إن لم توافق، فإن كل ما سبق الاتفاق عليه يصبح لاغياً، مما يعيد الأمور إلى المربع الأول.
غير أن العودة إلى المربع الأول، لن تكون عودة باردة وإنما قد يتبعها إجراءات وقرارات من مستوى غير مسبوق وقد يكون البعض أقصاه من حساباته. بعد ذلك يأتي استحقاق الحصار الذي يضيق الخناق أكثر فأكثر على سكان قطاع غزة، ويعود بنا أيضاً إلى المربع الأول حين أحكمت إسرائيل الحصار على القطاع.
شئنا أم أبينا، فإن أشقاءنا المصريين يعيشون ظروفاً خاصة أخذت تنعكس على سكان القطاع، وهو أمر إلى حد كبير غير خاضع للنقاش، بل أن النقاش، وكيل الاتهامات والشكوى، كل ذلك لا يفيد، ولذلك علينا تدبر أمورنا بأنفسنا. صحيح أن الإجراءات المصرية على الحدود مع قطاع غزة قاسية ومؤلمة، لكن سيناء تتعرض إلى أوجاع شديدة، وتنطوي أوضاعها على مخاطر استراتيجية تهدد الأمن القومي المصري، ولذلك علينا أن نتجمل بالصبر وأن نجد السبل الكفيلة بتخفيف معانيات شعبنا في القطاع، بدون إلحاق الضرر إلا في حال كان ذلك سيلحق الضرر بإسرائيل ومخططاتها.
إن شئتم الحل فإنه مرتبط بالمصالحة الفلسطينية التي تؤسس لحوار أخوي مع الأشقاء المصريين، بما يحفظ حقوقهم ويعزز قدرتنا على تحقيق مصالحنا الوطنية. في هذا الإطار وبدون أي مساس بالأمن القومي المصري، فإننا نتطلع إلى تخفيف الإجراءات المصرية التي تتعلق بحركة المواطن الفلسطيني سواء في المطارات أو من خلال معبر رفح، الذي ترتبط به وحدة مصالح وحاجات المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة.
ثم لدينا ملف المفاوضات، الذي نعتقد بأنه أصبح مفتوحاً على غاربه، وأن ثمة موافقة مبدئية للتعامل معه إيجاباً من قبل القيادة الفلسطينية، بالرغم من كل التصريحات الحذرة، التي تبدو وكأنها تنطوي على قدر من الممانعة التي تهدد باستئنافها.
نعلم حجم الرفض الشعبي والسياسي الفلسطيني لهذه المفاوضات، وهو رفض واع ومبرر، لكن ثمة حاجة ماسة إلى الاختيار بين القيام بنشاطات وأعمال تهدف وقادرة على نسف هذا الخيار، وإما أن تؤدي المواقف الفلسطينية حتى الرافضة للمفاوضات، إلى تقوية الموقف الفلسطيني.
لا يحتمل الأمر مواقف وسياسات تبرئة الذمم وتسجيل المواقف والمزايدات التي تضعف الموقف الفلسطيني العام، بدون بدائل وخيارات، وهذه مرة أخرى مرتبطة بالمصالحة والحوار، من أجل الاتفاق على استراتيجيات وخيارات أخرى.
في الواقع، فإن الوضع الفلسطيني سواء في الأراضي المحتلة عام 1967، أو في اراضي 1948، يمور بالكثير من الاضطرابات، وينطوي على مخاطر شديدة، ما يستحق المبادرة نحو حوار شامل مختلف عما سبق.
المؤلم والمؤسف أن لا أحد حتى اللحظة يتقدم بمبادرات من هذا المستوى، ويبدو أن الكل ينتظر أو يراهن على التطورات العربية، خصوصاً في مصر. في هذه الحالة فإن خسائرنا جراء الانتظار ستكون كبيرة ومن اللحم الحي للشعب الفلسطيني الذي لا يزال يدفع ثمن أخطاء وخطايا قياداته السياسية منذ أن تقدمت الأجندات الفئوية على الأجندات الوطنية.
إن الضرورات الوطنية في هذه اللحظة تقتضي على الأقل مراعاة المزاج الجماهيري، وصيانة الحريات الشخصية والعامة، وترطيب الأجواء الداخلية وإشاعة منطق التسامح الداخلي، وليس اللجوء إلى استفزاز الناس، ومضاعفة همومهم ومعانياتهم.


