مشربتش من نيلها !!

خبر : الطريق الى مصر (11) ...لنا شاهين

الجمعة 26 يوليو 2013 04:39 م / بتوقيت القدس +2GMT
الطريق الى مصر (11) ...لنا شاهين



                                                                       الخطوة الاخيرة

- الحال واقف يا مدام

سمعت هذه العبارة في مصر اكثر مما سمعت ابواق السيارات التي لا تكف عن اثارة الضجيج كمن يخشى الوحدة ويقلقه الصمت ، لكني عندما قالها لي سائق سيارة الاجرة في ذلك اليوم شعرت بانها تخرج من اعماقه وفي ألم .. سالته:

- هي الناس يعني بطلت تركب تاكسيات ؟

سارع بالرد:

- لا ابدا لامؤاخذه ، بس اصله انا شغلتي الاصلية في السياحه ، يعني توصيل من المطار واليه ، فنادق ، اماكن سياحية ، كنت بكسب اوي من السياح..

- ودلوقت ما بتكسبش ؟

- لا مؤاخذه حضرتك الجاي على قد الرايح ، طول النهار بلف في الشوارع زي النحلة ويا دوبك ، البيت والعيال ، مصاريف ياما ، غير كمان مصاريف التاكس ، ده عجل داير بعيد عنك.

نفث السائق دخان سيجارته وهو يسترجع ذكريات زمنه الجميل :

- يا سلام يا مدام على ايام زمان ، دنا كنت باخد السايح من دول لفه او لفتين وانام عليها يومين تلاته ، السياحه دي رزقها واسع ، قصدي كان واسع قبل الثورة .

مسافة طويلة بين اول يوم خضت فيه بقدمي بحر ميدان التحرير لأسبر اغواره ، وبين ما انا مقدمة عليه اليوم من محاولة لمساعدة الميدان على الوصول الى اجابة سؤاله الاكبر ، الى اين يا مصر .. هو اسبوع واحد في عمر الزمان ، لكنه في عمري انا دهرا كاملا عشت فيه عالما اخر وجربت دنيا غير الدنيا التي اعتدتها ، وان كان القاسم المشترك في كل ذلك هو عملي الاعلامي ، وكوني من رعية صاحبة الجلالة مهنة المتاعب .

انا محبطة بكل المقاييس ومرهقة ومنهكة ، ليس فقط لما مررت به من احداث وما عايشته من مفاجآت المهنة ومعاناتها ، او حتى لمواجهاتي الجانبية لمنغصات الالتحام بالجماهير عندما تكون السطحية والانتهازية سيدة الموقف فيه ، ولكن ايضا لانسداد الافق امامي .. الى متى ساظل

مصلوبة على حد سكين قرار بفتح المعبر او الاستمرار في اغلاقه يتخذ يوما بيوم؟؟  وربما حسب مزاج البعض ، او على احسن تقدير حسب رؤيتهم وتقديرهم للموقف الامني او السياسي ، وهو تقدير ربما يصيب او يخطئ ، وربما يكون مبالغا فيه لغاية في نفس يعقوب .

مر يوم الاثنين وها هو الثلاثاء يتبعه وانا لا ازال اراوح مكاني برسم فتح او اغلاق معبر رفح .. فلأتكل على الله واتحدى قيظ الصيف وأبدأ جولتي على ما تيسر من مواقع سياحية في القاهرة والجيزة ، ليس للنزهة هذه المرة ولكن لمحاولة اجابة السؤال الاكبر .. الى اين يا مصر ؟؟

السياحة في مصر هي مرآة أمنها واستقرارها واقتصادها ، ولا ادري هل كانت تلك المرآة قاتمة الصورة الى ذلك الحد حين رأيتها ، ام انها الاتربة والغبار قد تراكمت على سطحها ، فأنا قد بدأت بالاهرامات ، وفي صيف القاهرة لا تكون تلك المنطقة الا حرا قائظا ورطوبة موغلة في الكثافة ، وفوق ذلك كله اتربة وغبار ، ولكن يهون كل ذلك امام ما جد على سطح مرآة الحال في مصر ، السياحة..

- كاريته يا مادام ؟

- تركبي حصان ، ما تخافيش ده هادي اوي ومطاوع..

- اتفضلي يا مدام ، جربي الجمل ده ، حنكرمك في السعر..

كانهم في سباق محموم لاقتناص الزبون ، و يبدو انهم معذورن..

- ياعم قالتك مش عايزه حصان ولا كاريته ، افهم بأه..

- وهي يعني قالتك عايزه جمل ، سيبنا ناكل عيش يا عم ما انت عارف قد ايه بقالنا من غير شغل ، ماوصلناش الدور غير النهارده..

بقدر ما ضحكت لبساطة الحوار والطريقة المصرية الجذابة في العرض ومحاولة انتزاع الطلب ، بقدر ما حزنت في قرارة نفسي لما شاهدته بأم عيني من سوء حال هؤلاء المتكسبين من السياحة.

من يمر بالمناطق الاثرية السياحية هذه مرور الكرام قد يلحظ تدني نسبة الزائرين وخصوصا من الاجانب الى حد اكثر من بعيد ، لكنه لن يتعرف على مأساوية الوضع كما عرفته انا من خلال احاديثي مع العاملين في ميدان السياحة ، وعلى وجه الخصوص صغار المنتفعين بها .. الاف مؤلفة من الاسر المصرية الفقيرة او المتوسطة اجتماعيا تكاد تنهار تحت وطأة عزوف السائحين عن زيارة مصر لما تعانيه من عدم استقرار .. المنظمة الدولية للسياحة التابعة للامم المتحدة اعتبرت مصر من الاماكن الخطرة على السائحين ، والمنتدى الاقتصادي العالمي صنف مصر في تقريره للعام الحالي بعد اليمن والباكستان في خطورة وضعها بالنسبة للسائحين ، فبأي عقل وأي قلب يمكن لغير المضطر ان يلقي بنفسه في آتون انفلات امني يضج منه المصريون انفسهم ، وضع مقلوب قد طال امده ولا يبدو له حتى اليوم اخر .

ولا انسى نظرة ذلك الجمل اليّ وصاحبه يحدثني عند سفح الهرم كيف انه لم يعد يجد ما يشتري به الذرة لاطعامه كما ينبغي ، الى حد انه قد يطعمه في الصباح ويطلب منه ان "ينام خفيف" اي بدون وجبة اخرى في المساء كالمعتاد ، ولو ان ذاك الجمل قد علم الكلام لصرخ باعلى صوته:

- ملعون ابو السلطة والنفوذ على ابو مين يحكم مين ، انا عايز آكل .

ولكان ملايين المصريين البسطاء قد رجّعوا صرخته في كل انحاء مصر:

- واحنا كمان ..

في كل الاماكن السياحية التي زرتها رأيت الحال يغني عن السؤال ، وسمعت مطلبا واحدا موجها للرئيس القادم ، اي رئيس لا يهم ، ان يحقق الامن والامان والاستقرار لتستعيد السياحة عافيتها ، ويعود لمصر مصدر دخل قومي لطالما كان على رأس مصادر دخلها ..

وشمس الاصيل يا نيل راخيه شعور الدهب .. زفَرتها بحرقة لا ارادية وانا اقولها مرغمة تحت وطأة ما رأيت وما لمست:

- كان زمان يا ست ...

النيل كان ولا يزال وسيبقى ساحر القلوب ، و مكان لقاء الاحباب عندما يسمح الزمان ، ان بنهار او بليل ، وعندما قال المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد ان مصر هي هبة النيل ، لم يكن قد رآه في وقتنا هذا والا لكان اضاف بقوله ان النيل زينة مصر واحلى ما فيها ، واروع مكان للرومانسية والحب والراحة النفسية ..

لكنها الغمة التي ادعو الله مخلصة ان يزيلها عن مصر الحبيبة ، حتى يستطيع من شرب من ماء النيل ان يرد على شيرين عندما تسأل:

- ما شربتش من نيلها ؟

- بلى وساعود اليه

دون ان يردف قائلا :

- ولكن عندما يسمح الزمان ويعود الامن والامان والاستقرار والازدهار ، لأم الدنيا ، فيدخلها من يدخلها بسلام آمنين.

- مش حنروح خان الخليلي يا استاذه ، عشان نكمل التقرير ؟

اجبت المصور الذي سألني ذلك السؤال وانا ارسل بصري ينهل من جمال النيل:

- ياريت في وقت ، دنا كان نفسي اروح الحسين واشرب شاي في قهوة الفيشاوي .. ياه ، فعلا امتى الزمان يسمح !!

انا الشعب انا الشعب ، ماشي ياعمي الشعب ، انا الان رايقالك ، فالوقوف على ضفة النيل لا يترك ثغرة يتسلل منها قلق او توتر رغم ثقل ما ينوء به كاهلي من ارهاق جسدي ونفسي

- نعم .. معقول ، بربك ، خلص الصبح طالعه ، مش راح انام الليله اصلا .

اثق في ذكائكم كل الثقة ، صحيح ، نزل علي خبر فتح المعبر بردا وسلاما لا اظنه قد توفر لابراهيم عليه السلام بقدر ما اغرقني في احساس لذيذ بأن لي وطن اعود اليه ، ولي اهل وان كان المصريون اهلي بلا ادنى شك ..

مجرد فتح طريق العودة الى غزة امامي ، ادار شريط زيارتي الخاصة هذه لمصر من اوله في راسي .. الان استطيع تقييم نتائج مهمتي العملية وما ان كنت قد نجحت وانجزت ام لا .. لا يهم ، دع الحكم في ذلك للمشاهد .. ليس المشاهد وحده ، والقارئ ايضا ، فانتم الان نصفي الاخر

شدني من قلب موجة الفرح التي اجتاحتني صوت احد المرافقين لي يحذر من كون الطريق عبر سيناء غير امن في ظل استمرار عمليات الجيش المصري.. سألته:

- هل يمر الطريق الى غزة عبر جهنم ؟

اجاب بكثير من الدهشة:

-لا مش للدرجة دي..

- حتى لو كان ، سأرجع غدا الى بيتي واسرتي واهلي في وطني ، حية او ميتة لا فرق .

لا اظن ان ذكاءكم سيخونكم ، في اخرة المتمة ، على قولة المصريين ، وتتساءلون ، وهل رجعت ؟ .. لكن لا بأس سأجيب سؤالكم حتى لو لم تسألوه .. نعم .. وما أحلى الرجوع اليه..

اشتقت لغزة وحياة الله...

يا الهي ... أتصدقون .. اشتقت لمصر ايضا ، ولميدان التحرير ، وللناس البسطاء الطيبين ، ولعيني ذاك الجمل تستجدي كل حكام مصر وساستها ورؤساء احزابها وناشطي ثوراتها ، وحتى قادة جيشها حفنة من الذرة يسد بها ولو بعضا من جوعه .. واشتقت لبائعة الترمس العجوز بطرف الميدان تصيح من بعيد " صوابعك مش زي بعضيها يا بنتي " ، ولبائع الشاي الشهم الذي لن انسى استماتته في الدفاع عني ، ولا عزفه المنفرد بالملعقة على جنبات كوب الشاي، واشتقت حتى لحرب الهوانم !!!

واشتقت للست .. وها انذا في بيتي أنعم بسكينة الاستماع اليها في جوف ليل غزة ، و القمر بدرا .. والليل وسماه .. و نجومه و قمره ..قمره و سهره ..و انت و انا ..