الحلو تبسم

خبر : الطريق الى مصر (10) ...لنا شاهين

الخميس 25 يوليو 2013 10:15 م / بتوقيت القدس +2GMT
الطريق الى مصر (10) ...لنا شاهين



- سلام قولا من رب رحيم ، في ايه تاني يا هوانم ، انا لسه جايه من بره اهو قدامكو ، يعني لا قلت ولا عدت.

- الله يجازي شيطانك ، عسل والنبي.

عسل والنبي !! وبقية النسوة يضحكن واساريرهن منفرجة انفراج زاوية بمقدار مئة وثمانين درجة .. في ايه بالظبط ، انا مش ناقصه ، يكون ده كمين !! ، يمكن مجلس قيادة حرب الهوانم رجع في كلامه ودول عايزين يستدرجوني لمكان تجمعهن ويعدن محاكمتي .. قبل ان يرسو عقلي على بر حقيقة الوضع ، قالت احدى النساء التي اذكر انها يوم الموقعة كانت تتبوأ مركزا قياديا متقدما.

- اهلا يا استاذه لنا ، ما تستغربيش اننا عرفنا اسمك ، اصلنا سألنا الاخوة اللي معاكي هنا، ومن الاخر كده احنا جايين نعتذر ليكي نيابة عن كل الاخوات.

- تعتذرولي !! يا ستي كتر خيركو ، بس تفتكري اللي حصل يمكن يتنسي بسهوله وتمحيه كلمة اعتذار بالبساطه دي

اجابت المرأة وعلامات الجدية تكسو وجهها:

- لا طبعا ، مش بالبساطه دي ، وعشان كده جينا نعتذر ، ولو كنا معتبرين الموضوع عادي واللي حصل حصل وكبر دماغك ، ماكناش جينا اصلا ، ووقفنا ساعتين هنا نستناكي .

على غير ارادة مني مرت احداث حرب الهوانم امام عيني وكاني اراها تحدث الان ، قلت لمحدثتي:

- تعرفي يا مدام ، انا بالتاكيد راح اقبل اعتذاركو لسبب مهم جدا ، هو انكو مش مضطرين للاعتذار وكان ممكن ما تجوش وماحدش حيعتب عليكو اصلا ، بس نفسي في حاجه واحده ، اعرف ليه عملتو كده في ، وهل كنتو مدركين ايه اللي كان ممكن يحصل كمان ؟!

- معاكي حق يا استاذه ، وبصراحه احنا كلنا مكسوفين من نفسنا ، وانا بالذات مكسوفه دلوقت اكتر من الباقيين عشان مش قادرة اقولك ليه عملنا كده ، او بالبلدي كده ، مش عارفه الاقي سبب مقنع للي حصل .. بس اقدر اقولك انك انتي في حد ذاتك لم تكوني المقصوده بما حدث ، انتي كنتي ضحية رماها القدر امام مجموعة كبيره من النساء المتحمسات لعمل اي شيء لحماية الثورة والمساهمة في مواجهة اي حد يحاول النيل منها ، وطبعا لما بتكون التجمعات البشرية الكبيرة منفعله بيصبح التأثير عليها وتوجيهها في اي اتجاه سهل جدا على ناس محترفة انتهاز الفرص اللي زي دي عشان تعمل بلبلة وتطلع هي المستفيد الوحيد من كل اللي بيحصل واللي كان ممكن يحصل.

- ماشاء الله ، لا فض فوك يا دكتورة

لا ادري كيف قلتها ولماذا ، واغلب الظن انها لم تكن في مجملها اعجابا وتقديرا للكلام الكبير اوي الذي قالته وباسلوب تعمدت اضفاء اكبر قدر من البساطة عليه ، وربما كان ذلك هو سبب اضافة لقب دكتوره هدية من عندي .. فاجأني الرد:

- انا فعلا دكتوره ، تخصص علم اجتماع سياسي

- الله يسامحه بأه اللي عمل الزوبعة دي ، ويسامحكن بقدر ما انتن طيبات ان لم تبتلين بمن يستغل طيبتكن في تحقيق مآرب اخرى .

قلتها لنفسي وانا اودعهن نفر نفر بالابتسامات والقبلات ، وعفا الله عما سلف ، ووقانا شر المستخبي في علم الغيب

كان اخر عهدي بالتغطية المباشرة في ميدان ذاكرتي المصرية ، بحلوها ومرها ، ميدان التحرير ، هو يوم امس الاثنين .. والذي شاء القدر ان يكون ايضا من تلك الايام التي يقول عنها المصريون " مالهاش لازمه" ، خيط رفيع بين الحب واللا حب ، ولا اقول الكراهية ابدا ، اصبح يربطني بهذا الميدان الذي كنت امر به في زيارات سابقة لمصر دون ان التفت الى اي شيء فيه ، وربما دون ان ألحظ وجوده ..

بعد انتهاء مراسم وداعي لوفد هوانم ميدان التحرير للمصالحة وتقديم الاعتذار ، وقفت على سطح المبنى الملحق بالميدان والذي قررت القناة تغطية الاحداث من عليه ، وجلت ببصري في ارجاء الميدان ، كان هادئا وادعا رقيقا عطوفا ، ربما لانه كان في ذلك الوقت قادرا على التقاط انفاسه بعيدا عن ضغط وتزاحم الكتل البشرية الهائلة التي يكاد يختنق تحت اقدامها ..

الجماهير اليوم مشغولة او متشاغلة عن ملتقاها السياسي ، وربما الاجتماعي ، اما بالتحضير لاستقبال الشهر الكريم ، او كما جرت العادة ، للاستعداد النفسي والجسدي لجولة قادمة .. شدني الهدوء من حولي وشعوري بالامان وانا في برجي العاجي هذا بعيدا عن متناول يد الجماهير وخطر الالتحام بها ،شدني كل ذلك الى التأمل في ميدان التحرير بعين اخرى لا توتر فيها ولا خوف ولا قلق .

كبير هذا الميدان بلا شك ، وبالغ الاهمية بما لا يتوفر لاي ميدان اخر في مصر ، فهو يمثل قلب القاهرة بكل معنى الكلمة ، وذلك ما يبرر بكل تأكيد حيويته بالنسبة لمن يريد ان يقول كلمته فيتردد صداها في كل مكان .

ميدان التحرير اليوم حزين و مهموم. غابت عنه الشعارات و غيبت الأغنيات.. المنصة الرئيسية في الميدان ، وهي المنبر الذي يعتليه في العادة من يقف وراء المحتشدين بمختلف مشاربهم ، كأن على راسها الطير، ما يؤكد ان اليوم لن يكون يوم الجماهير في ميدان التحرير .. اعداد المتواجدين هنا لا تكاد تذكر ، والاغاني الوطنية التي لم تكن تتوقف لحظة واحدة قد صمتت لتفسح المجال لتلاوة ما تيسر من آيات الذكر الحكيم حدادا على ارواح شهداء الاحداث الاخيرة ، سواء ما يسمى بمذبحة الحرس الجمهوري ، او غيرها في مختلف انحاء البلاد ، فكلهم مصريون على اية حال ..

قفزت الى مخيلتي من جديد حرب الهوانم ، حدقت في اللاشيء وانا ألقي ببصري حتى اخر الميدان على الطرف الاخر ، يبدو ان الاعتذار عما حدث لي لم يكن كافيا لازالة كل ما بنفسي من المرارة ، او ان الوقت لم يكن كافا للنسيان بعد ، رأيتني استعرض احداث تلك الموقعة وكأن هدوء الميدان قد نشط ذاكرتي وخصوصا في الجزء المتعلق بكيفية خلاصي من تلك الورطة المميتة .. تذكرت بعضا من اقوال العقلاء في دفاعهم عني ، وتذكرت ايضا شهامة بائع الشاي محمد الذي واجه الهوانم بجرأة ابن البلد ودافع عني دفاع المستميت.

- ياست انتي وهي اتقو الله ، بلاش افترا على الناس اللي بتحافظ على اكل عيشها ، دي جايه هنا تشتغل وتعمل حاجه مفيدة ، مش زي بعض ناس جايين يتسلو ويرمو بلاهم على مخاليق ربنا..

صاحت به امرأة تبدو على وجها ملامح الشراسة ، وهي تحرك يديها بما يقول عنه المصريين ، بتشوّح بايديها

- وانت مالك انت يا قهوجي ، هو انت كنت قريبها وللا تعرفها اصلا ، دنت بياع سريح مالكش في صحافه ولا تلفزيون وكبيرك تلقيمة شاي وللا باكو معسل..

صاح بها محمد على طريقة خدوهم بالصوت:

- اقصري الشر يا ست ، ده الجاري عالشر ندمان ، انا مش قهوجي وللا بتاع شيشه ، انا بعمل شاي وبس عشان اكل عيشي من عرق جبيني مش سفلقه ، وبعدين انتي حتفتي فيها ليه ، ايوه اعرفها كويس ، انا قاعد بنَصْبِة الشاي بتاعتي جمبهم من ساعة ما حطت رجلها في الميدان ، وبشوف كويس كل اللي بتعمله الاستاذه وبسمع كل اللي بتقوله كلمه كلمه ، عمري ما سمعت كلمه بطالة على الثورة طالعه من بقها .

- ياعم اجري العب بعيد ، هو انت اصلا ايش فهمك في اللي بتقوله.

- بقولك ايه يا ست ، انا خريج معهد خدمة اجتماعية والتلفزيون والاخبار دي مزاج عندي ، الدور والباقي عليكو انتو ، بتعومو على عوم اي حد عايز جنازه ويشبع فيها لطم ، وفي الاخر بتلاقو نفسكو مش عارفين عملتو ايه وليه.

اخذتني شهامة ذلك الشاب الذي لم تكن علاقتي به تتعدى كوب الشاي وبعض كلمات المجاملة والتقدير لأدبه وحسن اخلاقه وسرعة استجابته لما نطلبه .. كان يمكن ان يدفع ثمنا غاليا لتلك الشهامة في موقف يسوده غياب الوعي الانساني ، والقدرة على التفريق بين الغث والسمين ، لكنهم المصريون بحضارة السبعة الاف عام لا تعدم فيهم من يملك القدرة على رد الكتلة الجماهيرية وتحويل مسارها ، انتصارا للمظلوم وللطرف الاضعف ، حتى لو كانت المواجهة مؤلمة ومكلفة.

شعرت بدفقة حب ، او على الاقل ود وتعاطف تشدني الى الغوص اكثر في تأملاتي ، لاول مرة احس وكأن ميدان التحرير يبتسم لي ابتسامة شاحبة لكنها مفعمة بالحنان كابتسامة جدتي رحمها الله ، وكأنني سمعته يهمس لي ، لا عليك يا ابنتي ، اذهبي الى حيث ينبغي ان تكوني ، واطمئني عليّ ، فانا باق هنا ما بقيت مصر ، ومصر باقية ما بقي على هذه الارض حياة ، انت قد أديت مهمتك ، ومن قبلك الكثيرون ، ومن بعدك ايضا سيأتي الكثيرون ، وربما تعودين انت اليّ ، وربما اعرفك عندما اراك ثانية فاختلس من تحت اقدام الكتل البشرية ابتسامة ارسلها اليك في غفلة من كل اؤلئك الذين لو رسموا البسمة على شفاههم وعمرت قلوبهم بالحب لما احتاجوا لأن يكونوا هنا.

- الحلو والنبي ، تبسم للنبي ، الحلو تبسم..

- الله الله ، الحلو تبسم مره واحده ، خلاص حتعتقينا من الاغاني الوطنيه ، ولا حتى علّي البتاعه بتاعتكو دي ومعرفش تعمل ايه بيها ..

اخرجني التعليق الساخر لاحد الحراس من اعتكافي بمحراب التأملات ، كدت اقول انني كنت اغني لميدان التحرير الذي تبسم لي ، لكني فضلت ان اختصر الطريق...

- اه ، لا ازاي ، هو احنا نستغنى عن الاغاني الوطنيه ، انا بس كنت بقلّب في نغمات المحمول فسمعتها صدفه .

هزني من الاعماق هذا الوداع غير المتوقع من ميدان التحرير ، رميت احد اطرافه بنظرة عابرة من على بعد ، خلتني ارى بائعة الترمس العجوز تصيح بي من مجلسها على الرصيف " صوابعك مش زي بعضيها يا بنتي " ..

تذكرت ذلك الرجل الذي اصر في اول يوم لي بالميدان على ان يصحبني لارى امه وقد كانت معتصمة ايضا في الميدان ، قال لي

- تصدقي يا استاذه امي شافت رؤية ان كل حاجة حتنتهي خلاص وتتفك ضيقتنا ، وقالت ان ده حيحصل تاني يوم ، وادي احنا مستنيين بقالنا كتير ومفيش حاجه بتحصل ، اتفضلي معايا شوفيها .

قلت في شيء من الدهشه:

- والدتك معاك هنا ، الا انت عندك كام سنه يا حاج ؟

اجاب بكل فخر

- ستين سنه

اردفت بنبرة استهجان:

- يعني امك اقل ما فيها ثمانين سنه ، وبتقولي معتصمة هنا !

اجاب ضاحكا:

- ومصره ما تمشيش من هنا الا لما رؤيتها تتحقق...

لم اجد بدا من اذهب معه لارى أمه المتنبية هذه ، والتي طالت نبوأتها لكنها تحققت في اخر المطاف ، لكني لم اكن استطيع ان امنع نفسي من الشعور بالدهشة واحيانا بشيء من الريبة ، مالذي يجعل امرأه في ارذل العمر تترك بيتها وتقيم في الميدان بكل ظروفه غير الملائمة لادنى مقومات الاقامة المريحة ؟؟

بدأت اول تغطية مباشرة لي في ذلك اليوم ، وتحدثت عن حال الميدان ، وكدت اقول انه قد خلى اليوم الى نفسه ليتفكر ويتدبر عله يجد جوابا للسؤال الاكبر .. الى اين يا مصر ؟؟!!

انا ايضا حملت ذلك السؤال في قلبي وانا اخرج لاعداد تقرير عن وضع السياحة في مصر ، مؤكد انكم فهمتم الان ان المعبر باق على قهره لي ، وان طريقي الى غزة لا زال مسدودا ..

ترى هل تقولون الان ، طب اسألي الاول الى اين يا لنا ؟! معكم كل الحق ...

يعني هو حظي العاثر ده حيفضل كده زي بعضيه على طول ؟!!

في الحلقة القادمة والاخيرة الخطوة الاخيرة على الطريق الى مصر ..................