قرابة ربع قرن على إنطلاق عملية السلام؛ وعقدين على المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية، دون نتائج جوهرية، وبدا الحل على أساس الدولتين ليس بعيد المنال فحسب بل أخذ بالتلاشي، المشكلة لا تكمن في السياسة أو عملية المفاوضات كأحد فروعها، إن الوسائل السوية للسياسة، هي وسائل الدبلوماسية، أي وسائل تقوم على الحوار والتفاوض، في هذا السياق ينبغيي استسقاء الدروس من حالات الفشل المتكررة التي أصابت عملية السلام/المفاوضات بصرف النظر عن هوية رئيس وزراء إسرائيل، أو الزعيم الفلسطيني أو شاغل البيت الأبيض، ينبغي أخذ الدروس من استمرار عدم رغبة واشنطن تبني مقاربة تضمن الحل النهائي، وإشكاليات أعمق تتعلق ببنية المفاوضات وغياب التوازن بين اللاعبين الرئيسيين، وعدم مشاركة لاعبين آخريين في عملية السلام.
تؤشر خبرة التاريخ إلى أن هناك موقفاً ثابتاً للولايات المتحدة تجاه القضية الفلسطينية لم يتغير بتعاقب الإدارات الأمريكية المختلفة، فكامب ديفد الأولى ومبادرة ريغان للسلام تعبران عن تصور استراتيجي لطبيعة السلام المنشود أمريكياً؛ والمضمون عدم إعطاء الشعب الفلسطيني حق تقرير المصير أو إقامة دولته المستقلة ودون إزالة المستوطنات في الضفة الغربية مع التأكيد على الرؤية الإسرائيلية بشأن القدس، وإنهاء مشكلة اللاجئين عن طريق توطينهم في الدول العربية؛ هذه الرؤية لجوهر عملية السلام لا تتعارض مع مشروع "إيجال ألون" الذي يعتمده نتنياهو الآن بعد إضفاء بعض التعديلات عليه ليكون إطاراً لتسوية نهائية مع الفلسطينيين تلبي متطلبات الأمن الإسرائيلي، أما في عهد كلينتون وبوش الأب والإبن استمرت السياسة ثابتة في موقفها المنحاز لإسرائيل، ويعبر خطاب أوباما خلال حملته الانتخابية الأولى أمام منظمة ايباك صراحةً عن رؤيته لعملية السلام مؤكداً " أن القدس ستبقى عاصمة لإسرائيل ويجب أن تبقى موحدة "، وفي ذات السياق تضمن خطابه عن حالة الاتحاد في مستهل فترته الرئاسية الثانية " تعهد بالوقوف إلى جانب إسرائيل في سعيها للأمن والسلام القابل للحياة "، وفي المحصله مثل عهد أوباما خيبة أمل للعرب والفلسطينين على حدٍ سواء حين لم يحقق ما وعد به في الخطابين الشهيرين الذين ألقاهما في كل من القاهرة واسطنبول في رغبته في اتخاذ موقف موضوعي لتحقيق تسوية عادلة في المنطقة تقوم على مبدأ حل الدولتين.
وعليه لا يوجد أي فروقات بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بما يوحي بعدم وجود موقف جديد وحاسم، أثراً لذلك لا يمكن القول بأن الولايات المتحدة في ظل الفترة الرئاسية الثانية لأوباما يمكن أن تغير من سياستها المنحازة للجانب الإسرائيلي وأن تتحمل مسئولياتها الدولية بما يحقق تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.
في هذا السياق يمكن فهم التحرك الجديد لـ "جون كيري" الذي يتخذ من حدود 1967 مرجعية للمفاوضات، بما يتعارض مع ما أكد عليه الرئيس "أوما" في خطاب حالة الاتحاد وأثناء زيارته لإسرائيل حيث أكد على أمرين الأول هو أن علاقة الارتباط بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" هي علاقة أبدية، والثاني أن الاعتراف بـ"إسرائيل" باعتبارها دولة يهودية أضحى التزاماً أمريكياً لا رجعة فيه؛ وفقاً لهذه الرؤية فإن كل حديث عن إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 لا يخرج عن إطار الحديث، إن للجولة الجديدة من المفاوضات أبعاد أعمق يمكن قراءتها من منظور أشمل من كونها إحياء لعملية السلام المجمدة منذ زمن.
وفقاً لهذا المنظور فإن دورة المفاوضات الجديدة لن تعدو كونها مناورة علاقات عامة تحسن صورة أوباما أمام الرأي العام المحلي والدولي؛ الذي سجل عليه فشله الذريع في الوفاء بوعوده التي أعلنها بشأن "عملية السلام" في مستهل ولايته الأولى، ولن يتمخض عنها على الأرجح ما "تأمله" قيادة منظمة التحرير الفلسطينية منها، ربما باستثناء المساهمة في حل الأزمة المالية للسلطة كثمن للقاء عباس – نتنياهو برعاية أوباما، نظراً لذلك فإنها لن تخرج عن تجديد دورة استهلاك الوقت وملء الفراغ الراهن المترجم عملياً بمرحلة أللا حرب وأللا سلم، باعتبار أن هذا الفراغ ربما ينذر أو يحفز إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة، وهذا ما لا تريده واشنطن في وقت تعد فيه العدة لإعادة هندسة خريطة التحالفات في الشرق الأوسط بعد ثورات الربيع العربي.
وعلى الجانب الآخر تأتي الجولة الجديدة لفك عزلة إسرائيل في العالم, وإنهاء الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني, مع إعطاء الوعود بإنعاش الاقتصاد الفلسطيني, واستئناف مفاوضات التسوية عبر اتجاهين الأول سياسي متجاوزاً الحقوق الفلسطينية, والثاني اقتصادي لتنفيذ خطة نتنياهو الاقتصادية (السلام الاقتصادي)، ذلك ما كشف عنه الخطاب السياسي لـ "كيري" في زيارته لفلسطين لتحريك عملية السلام, وتؤشر ممارسته العملية عند لقائه الرئيس الفلسطيني على ذلك فقد عرض عليه القبول بالشروع في جولة تفاوض جديدة مقابل الإفراج عن الأموال الفلسطينية بشكل نهائي وعدم احتجازها من قبل إسرائيل مرة أخرى، وتوسيع مناطق سيطرة السلطة لاسيما المناطق المصنفة "C" وحرية البناء في المناطق التي تخضع للسيطرة "الإسرائيلية" بالضفة الغربية.
أما على المستوى الاستراتيجي الشامل توفر عملية إعادة المفاوضات فرصة للولايات المتحده لمعالجة ملفات هامة في المنطقة كالملف الإيراني والسوري، إلى جانب إعادة النظر في المقاربة الغربية التي تبلورت مع مطلع القرن الحالي والقائمة على تمكين الحركات الإسلامية من الحكم، خاصةً مع تعثر تجربة حكم الإسلامين في النموذج المصري؛ ولفظه على مستوى النخبة والجماهير، حيث رصد تقرير مؤشر الديمقراطية الصادر عن المركز التنموي الدولي خلال الفترة من 1 يوليو 2012 إلى 20 يونيو 2013 تنظيم الشارع المصري لـ 9427 إحتجاج ضد حكم الإسلاميين في سابقة تاريخية لم تحدث من قبل، أثراً لذلك فإن اطلاق مفاوضات جديدة يحقق نتائج في اتجاهيين: تجديد المفاوضات يساعد واشنطن في إدارة علاقاتها مع العالم العربي والتعويض عن علاقاتها الوثيقة بإسرائيل من خلال بذل جهود ظاهرية لتحقيق التطلعات الفلسطينية، والثاني يعطي الإدارة الأمريكية مزيدا من الوقت لمراجعة الاستراتيجيات تجاه الملف السوري/الايراني، واستراتيجية تمكين الإسلامين واعادة ترتيب الأوراق، بما يؤدي إلى إمكانية استبدال مقاربة (تمكين) بمقاربة (ادماج/ اشراك) الحركات الإسلامية في الحكم.
نظراً لذلك فإن الدورة الجديدة من المفاوضات لا تخرج عن إطار محاولات أخرى لإدارة الصراع وليس العمل جدياً على حله، بل ستؤدي على الأرجح إلى شراء المزيد من الوقت عبر مواصلة إدارة الأزمة.
فلسطينياً ما زال القادة لا يدركون أن كلمات "إنهاء الاحتلال الإسرائيلي" لا وجود لها في القاموس الأمريكي، ولم ترد في قاموس إدارة أوباما الأولى والثانية، ولم ترد كذلك أبداً في تصريحات كبار مسؤولي إدارته أو وزير خارجيته "جون كيري"، لكن بمقياس التكلفة/الأرباح لا يمكن للقيادة الفلسطينية الإعلان عن انتهاء عملية السلام، فالسطة قد تنهار، اضافة إلى عدم قدرة القيادة الفلسطينية وضع البدائل الأخرى لعملية السلام موضع التنفيذ العملي، يأتي ذلك متزامناً مع عدم جاهزية الجانب الإسرائيلي لعملية سلام جدية، وتؤشر الممارسة إلى التعنت والاصرار على يهودية الدولة، والإستمرار باتباع سياسة الاستيطان وقضم الأراضي؛ وموقف ثابت من القدس وقضية الدولة على حدود 1967 في ظل دعم الولايات المتحدة وتراجع القضايا المصيرية للفلسطينين على سلم أولوياتها.
وفقاً لهذا المنظور من الصعب تخيل عملية السلام وحل الصراع الإسرائيلي/ الفلسطيني بشكل مجزأ، ومن الصعب تخيل تسوية الصراع طالما ظل الفلسطينيون منقسمون سياسياً وجغرافياً كما هم اليوم. نظراً لذلك يجب أن تكون المفاوضات في إطار رؤية شاملة تحافظ على الحقوق الفلسطينية، يتم في إطارها تعديل المقاربة القديمة والتمسك بالثوابت وكذلك تعديل الاستراتيجية والأدوات واللاعبين.
يجب التخلي عن المقاربة التدريجية التي ميزت محادثات السلام على مدادها باتجاه مقاربة شاملة، بمعنى انجاز مخططات تفصيلية لاتفاقية إسرائيلية/ فلسطينية دائمة؛ تتضمن الثوابت بما تعنيه من دولة على حدود 1967 والقدس واللاجئين وحق العودة والأسرى، والضغط بقوة من أجل قبولها .
ينبغي استبدال الاستراتيجية الفلسطينية المتبعة على مدار العقدين الماضيين؛ فقد اصبحت اقل قبولاً مع مرور الوقت وأسهمت في تراجع مصداقية القيادة، أثراً لذلك ينبغي أن تفكر بجدية في خياراتها المختلفة: بما في ذلك المصالحة، والتدويل، والمقاومة الشعبية، ومصير السلطة الفلسطينية، وإشراك مختلف فئات الشعب في العملية السياسية.
في هذا السياق يجب العمل على تفعيل لاعبين جدد في عملية السلام؛ فخلال العقدين الماضيين قاد العملية مجموعة محدودة نسبياً من اللاعبين، غير أن اللاعبين الذين تم استبعادهم من العملية لهم صدى عميق في مجتمعهم، ينطبق ذلك على الإسلاميين، والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وفلسطينيي الشتات؛ ينبغي تصحيح هذا الوضع؛ ويمكن لاستراتيجية موحدة أن تكون أكثر فاعلية.


