طريقك مسدود

خبر : الطريق الى مصر (9) ....لنا شاهين

الأربعاء 24 يوليو 2013 01:00 م / بتوقيت القدس +2GMT
الطريق الى مصر (9) ....لنا شاهين



لم تكن يا فكيك هي نهاية المطاف ، صحيح انها اخرجتني من حرب الهوانم بسلام ، لكن الحس الصحفي والاستغراق في العمل حتى التوحد لم يدعني انعم بسكينتها لحظة واحدة ، فبدلا من الاندفاع بكل الرغبة في النجاة الى خارج الميدان ، وجدتني اسرع بقدر ما اكتسبت من خبرة في الحركة الثعبانية بين الكتل الجماهرية ، الى حيث المكان المعتاد لتقديمنا التغطية الاخبارية المباشرة ، للاطمئنان على الوضع هناك والتأكد من امكانية استمرار العمل دون انقطاع .

- الله الله ، قاعد ومتسلطن ولاعلى بالك ، وانا هناك بستنى اشارة من ريا او سكينة وابقى الموعوده اللي عليها الدور ، وشوف بأه مين فيكو اللي حيدفنها ولا يدفنوها

كانت تلك استهلالية التنفيث عما يتفجر بداخلي من براكين الغضب ، انطلقت تتلمس طريقها الى من يستحقها ، رد المصور بشيء من اللامبالاة

- وكنتي عايزاني افضل معاكي ليه يعني ؟!

- نعم ، انت بتستفزني ، عايز تقول ان اللي عملته هو الاجراء الطبيعي في الحالات دي ، تسيب زميلتك في الزنقة اللي كانت فيها ، بين الحياة والموت وتجري

- تمام يا استاذه ، عشان زميلتي كانت بين الحياة والموت كان لازم اجري ، عارفه لو فضلت معاكي ، ما كنتش حقدر اعمل اي حاجه تنفعك ، بس كان ممكن اضرك اكتر

- ياسلام ، دي ايه الفصاحه دي كلها ، اتاريك حكيم وانا مش واخده بالي .

اجاب المصور بذات البرود

- ماهو اللي ما يعرفش يقول عدس يا استاذه ، بالك لو انا فضلت معاكي كان الستات دول هاجوا اكتر وجاتلهم جنونة الجدعنة الكدابه وساقوا فيها علاخر ، اصل الواحده فيهم بميت راجل ولازم توري الراجل اللي معاكي جدعنتها وانها ما بيهماش ، وفوق ده كله كنتي حتلاقي مية راجل كل واحد فيهم حيعمل عشر رجاله في بعض عشان يدافع عن الحريم ويصد هجوم التتار ، اللي هم انا وحضرتك .

حدقت فيه بذهول وانا احاول ان احسبها بسرعه ، كل ست بميت راجل ، وكل راجل بعشر رجاله في بعض ، ياه ، طب انا وهو حنسد ازاي قدام المليونية دي اللي طالعه لينا خص نص ، والمهم ايه التوصيف اللي حيطبقوه علينا ، مخلوع وللا معزول .. عشم ابليس في الجنه يالنا ، ده حيبقى المقتول وانتي الصادقه .

يبدو ان المصور كان على حق ، لم استطع الا ان اقتنع بما قال واضعة في اعتباري ان اهل مكة ادرى بشعابها ، تذكرت كيف انقلبت بعض الهوانم فجأة من عنف الهجوم ضدي الى رقة الدفاع عني ، وقلن قولتهن الشهيرة ، دي غلبانه ومنكسره يا كبدي وبتجري على اكل عيشها .. انفرج ثغري عن شيء نصفه ابتسامة تقطر حزنا ونصفه الاخر غلالة حزن تحاول الابتسام .. قلت للمصور وانا استعد لانهاء الحوار ومغادرة المكان

- ماشي ياسيدي ، فهمنا ، انسحابك كان تكتيكي زي هزائم العرب كلها ، ياللا انصب الكاميرا واستعد للرسالة الجايه ماعدش في وقت ، رد المصور وهو يحتضن الكاميرا كالأم تخشى على وليدها من نسمة عابرة

- كاميرة ايه ، انتي اكيد بتهزري ، حتدفعيلي تمنها لو حصل لها حاجه

- ومين قالك انه حيحصل لها حاجه ، اهي هوجة وعدت ومفيش حاجه حصلت ، خلصني عايزه امشي حرام عليك

- والله لو انطبقت السما على الارض ما حسيب الكاميرا من حضني ، مجنون انا اسيبها تضيع من ايدي ، دي عهده يا ماما .

- يا ابني ربنا يهديك عايزين نشوف شغلنا ، صدقني مفيش حاجه حتحصل خلاص ، اللي حصل حصل وانتهينا

- مين قالك يا استاذه ، اللي حصل ممكن يتعاد بالنص دلوقت حالا لو في حد عينه على الكاميرا وعايز يسرقها ، هي كلمتين يهيج بيهم الناس يرجعوا يقولو الحق علينا اللي سبناكم المره اللي فاتت .

رد عليه احد الحراس وكان قد بدأ يفقد صبره

- ياعم بسيطه ، حيصل ايه يعني ، اخرتها غلبانه ومنكسره يا كبدي وبتجري على اكل عيشها

صاح المصور به في عصبيه

- ولما ياخدوا الكاميرا مني حتنفعني حضرتك

اجاب الحارس صياحه بصياح لا يقل حدة

- حقول لهم ده غلبان ومنكسر هو راخر وبياكل عيش من الكاميرا دي

شر البلية ما يضحك ، وانا رغم كل همي وغمي وما اعانيه من انهاك يكاد يصل حد الانهيار ، ضحكت والمصور يقارع الحارس الحجة بالحجة ولكن بقالب كوميدي

- ماشي يا خفيف ، مش مشكله ، وحقول لهم كمان اني بصرف من ورا الكاميرا على امي وابويا والسبع عيال وامهم وحماتي فوق البيعه

اكثر من ساعة وانا بكل ما اعانيه من ارهاق واحباط ، احاول ان اقنع المصور بالعودة الى العمل حتى اقنعته في النهاية وسلمت الميكروفون الى زميلي ومضيت ..

عدت الى المكتب وانا لا اعرف كيف وصلت الى هناك اصلا ، المسافة من ميدان التحرير وحتى العجوزة حيث يقع المكتب يمكن ان يقطعها الانسان سيرا على الاقدام ، او كما يقول المصريون يتمشاها ، لكني بعد حرب الهوانم التي خضتها في الميدان ، وكانت بصراحة من طرف واحد ، لم يكن عندي القدرة ولا الرغبة في ان اتمشى الى المكتب حتى وان كانت تلك التمشية على ضفاف نيل مصر .. ما حدث لي افقدني الثقة في مفاهيم كثيرة ، لكن جنوحي الطبيعي الى مبدأ عدم التعميم انقذ جزءا كبيرا من تلك المفاهيم واولها فقدان الثقة في طيبة واصالة شعب مصر ، فهذا المفهوم بالذات لم يهتز بداخلي ولو لحظة واحدة ، ويبدو ان صوت بائعة الترمس العجوز وهي تصيح بي من مكانها على رصيف احد اطراف ميدان التحرير ، "صوابعك مش زي بعضيها يا بنتي" ، قد حفر صداه في ذاكرتي فلم اعد انساه او اتناساه ، وللحق والتاريخ ان بعضا من تحالف قوى الشعب الذي واجهني تلك المواجهة الشرسة كانوا من العقلاء ، وهذا يفسر كونهم لم يتدخلوا من البداية ، ربما هي الطريقة المصرية لتهدئة النفوس ، ينتظرون حتى ينفث الطرفان ما يثور بداخلهما من غضب ثم يبدو عليهما الانهاك فيتدخل اهل الخير وتكون وساطتهم في هذه الحالة فعالة والطرفان مستعدان لقبولها ، لكن بالنسبة لي لم يكن هناك طرفان للنزاع وانما هو طرف الهوانم وانصارهن من جهة ينفثن غضبهن اللا مبرر ، وطرفي انا المجني عليها التي لا تستطيع ان تنفث شيئا لتعسر التقطاها لانفاسها في الاساس ..

- سلام

- وعليكم السلام ، ايه مالك ، العفاريت بتتنطط في وشك .

صحت بزميلتي

- سيبيني في حالي ، مش فايقالك والنبي

اندفعت الى داخل المكتب والقيت بنفسي على اول مقعد تعثرت به ، وانفجرت في موجة انفعال لو انها داهمتني في الميدان فلربما كانت قد كلفتني الكثير ان لم يكن حياتي ذاتها . ووصل انفعالي قمته وانا اروي ما حدث للزملاء بمكتب القناة ، فاعلنت انني لن ابقى هنا بعد ما تعرضت له من هكذا موقف ولا ساعة واحدة ، ولا اخفي عليكم انني كنت اعلم ان الموعد المحدد لعودتي الى غزة من قبل ادارة القناة كان بالصدفة ، بمحض الصدفة ، هو صباح اليوم التالي ، اي يوم الاثنين ، لذلك لم يكن هناك ضير ان اقسم باغلظ الايمان انني لن يطلع علي صبح وانا فيها

- طريقك مسدود مسدود مسدود ، ياولدي

لا ادري كيف انتبهت وسط كل هذا الغضب وعدم التركيز الى ان احد الزملاء قد رفع عقيرته بالغناء وبدون مناسبة ، وقارئة الفنجان بالتحديد ، طريقك مسدود يا ولدي !! .. توقفت عن صب جام غضبي على كل ما حولي ونظرت اليه باستغراب فاستفزني ضحك زملاء اخرين كانوا يحاولون منذ البداية ان تهدئة روعي ويقنعونني بأخذ الامور ببساطة وعلى طريقة ، ايه يعني علقه تفوت ولا حد يموت ..

- في ايه يا جماعه ، ايه خفة الدم اللي نزلت عليكو مره واحده كده ؟!

قالت احدى الزميلات وهي تدفن راسها في اللاب توب

- بيقولك طريقك مسدود ..

لم استوعب جيدا ، صحت

- يعني ايه ، انا مش رايقه للالغاز بتاعتكو

رد على الزميل قارئ الفنجان وبالحركة البطيئة

- المعبر .. بتاعكو .. قافل .. بكره

اسقط في يدي ، لم انطق حرفا واحدا ، شعرت ان قدماي لم تعد تحتملان ثقل جسدي ، انا لست بدينة بالمناسبة ، تكومت على المقعد من جديد بعد ان كنت قد وقفت لمقارعة الزملاء ، غصت براسي في داخل يديّ كما تغوص النعامة برأسها في التراب .. يا الهي ، رمضان لم يبق عليه الا يوم او يومان ، وانا قد انهكت تماما ، و عائلتي وارتباطاتي ، كيف يغلق المعبر هكذا ، هل عدنا الى عهد النظام البائد في التعامل مع قضية المعبر ، اهو الوضع الامني في سيناء وعمليات الجيش هناك ، ام هي كراهية النظام الجديد في مصر ، او بالاحرى كل الاحزاب والقوى المضادة للاخوان ، لحماس في غزة ، باعتبارها فرعا من تنظيم الاخوان ويدعون بانها كانت تتمتع بوضع الحركة الاكثر رعاية من قبل نظامهم الحاكم في مصر ، ولكل الاتهامات التي تسوقها الف جهة وجهة لحماس بتدخلها في الشأن المصري ، وتنفيها حماس نقيا قاطعا .. هل عدنا الى سياسة العقاب الجماعي لاهل غزة !!

مالي انا وكل هذا ، دع السياسة وألاعيبها لأهلها ، ودعني انا لهمي .. انا بالفعل قد انهكت وخارت قواي وقتلت الاحداث الجانبية المؤسفة سواء ماحدث منها لي انا بشكل مباشر ، او ما جرى امامي او حتى سمعت عنه وشاهدت صوره ، اي حافز بداخلي على المقاومة والاستمرار.

لم تعد لي رغبة في الكلام ولا حتى في سماع فتاوى من حولي وتحليلاتهم لمسألة اغلاق المعبر او احتمالات تطورات الاوضاع سلبا او ايجابا .. ركزت في عملي المكتبي ، جمعت ما جمعت من اخبار وحررتها وقمت بارسالها ..

انا الشعب انا الشعب ، لا اعرف المستحيلا ، هذا هاتفي النقال المصري ، يا عمي الشعب ارحمني ، لم اعد اطيق سماع اي شيء ..

- نعم ، ايوه ، عرفت يا سيدي ، يعني شو بدك اسوي ، الطم واشق هدومي ، خلص مش راجعه غزة بكره ، ولا عارفه راح ارجع امتى .. مع السلامه .

توقفت عن العمل ، انتزعت حقيبتي انتزاعا بعد ان حشرت اللاب توب فيها حشرا ، واتجهت الى باب المكتب ، توقفت امام غرفة المسؤول وقلت بما يشبه القرار الحاسم القاطع ، لن اعود للتغطية في ميدان التحرير غدا الا بحراسة مشددة

وكأن الحراسة قد اغنت عني من هوانم الميدان شيئا .. ماشي ، اهي منظره والسلام .. خلينا نشوف ايش ربنا كاتب ..

يتبع ...