مرة جديدة ينجح الأميركيون في إعادة ملف المفاوضات إلى طاولة البحث في الشرق الأوسط، في ظل إصرار غير مفهوم على بدء العملية التفاوضية والسعي للتوصل إلى تفاهمات مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من أجل خلق أرضية تمكنهما من العودة إلى المفاوضات في ظل وجود تناقضات عميقة حول المرجعيات المحددة للمفاوضات وأيضاً حول الإجراءات الواجب اتخاذها لخلق الأجواء الملائمة والمساعدة للعملية، ولكن الإثارة الأميركية وهذا التصميم قد لا يؤديان إلى حدوث الانطلاقة المطلوبة للمفاوضات.
القيادة الفلسطينية حددت موقفها بوضوح عندما طالبت بأن تكون المفاوضات من أجل التوصل إلى حل الدولتين على أساس حدود العام 1967، ووقف البناء في المستوطنات، والإفراج عن الأسرى والمعتقلين وخاصة القدامى منهم الذين اعتقلوا قبل اتفاق "أوسلو"، وهذا الموقف لا يروق للإسرائيليين وبالذات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يعلن أنه يريد المفاوضات دون شروط وحول كل شيء لكنه لا يعترف بمرجعيات العملية السياسية المقرة دولياً وخاصة قراري مجلس الأمن 242 و338 وخارطة الطريق والمبادرة العربية للسلام وكلها تتحدث عن حدود 1967، كما أنه يرفض الإفراج عن كل الأسرى القدامى بحجة أن بعضهم من حملة الهوية الإسرائيلية وهؤلاء حسب نتنياهو لا يحق للقيادة الفلسطينية المطالبة بهم، كما يرفض الوقف الكامل للاستيطان، ويقبل الوقف الجزئي غير المعلن. وعملياً لا توجد إشارات على حصول تفاهم مشترك على استئناف المفاوضات وهذا ربما ما جعل وزير الخارجية الأميركي جون كيري يؤجل دعوة الطرفين للقاء تمهيدي في واشنطن.
المعارضة الإسرائيلية لا تثق بنوايا نتنياهو وتشكك باعتزامه التفاوض بصورة جدية للتوصل إلى اتفاق، على الرغم من أن حزب "العمل" على سبيل المثال يوفر لنتنياهو شبكة أمان برلمانية للمضي قدماً في المفاوضات وحتى أن الحزب قد يشارك في الحكومة إذا شعر أن المفاوضات تتقدم مع الجانب الفلسطيني، وهذا الموقف بالإضافة إلى مواقف أخرى يؤمن لنتنياهو التقدم بالمفاوضات دون خشية من انهيار ائتلافه الحكومي فلو خرج "البيت اليهودي" وحتى ليبرمان الشريك في قائمة "الليكود - بيتينو" فهناك بدائل برلمانية أخرى تمكنه من الاستمرار. ولكن هذا مرتبط بموقف نتنياهو الذي في هذه الحالة سيكون بين أن يواصل أداءه كسياسي مراوغ يتلاعب بالألفاظ ويناور أمام وسائل الإعلام ولا يقوم بأي شيء جدي لمصلحة السلام والتسوية السياسية. ويعلق عدم إقدامه على خطوة جادة على عدم تجاوب الطرف الفلسطيني الذي يضع العراقيل ويطرح شروطا مسبقة للمفاوضات! وبين أن يتحول إلى قائد تاريخي يتخذ قرارا حاسما ويذهب نحو تسوية حقيقية. والعارفون بشخصية نتنياهو يستبعدون أن يتحول هكذا بين ليلة وضحاها إلى هذا القائد الذي تنتظره إسرائيل. مع أن بعض المحللين يعتقدون أنه إذا انغمس في العملية التفاوضية قد يتغير كما حصل مع رابين وبيغين من قبله.
الموضوع المهم هو ماذا يمكن للأميركيين أن يفعلوا لجلب الطرفين إلى طاولة المفاوضات غير الضغط على الجانب الضعيف وتهديده بتقليص المساعدات والاتهام بإفشال العملية. فهل لدى الإدارة الأميركية إرادة قوية ورغبة في إنهاء ملف الصراع في الشرق الأوسط على ضوء تعثر برنامجهم في سورية التي لا يزال فيها بشار الأسد صامداً يقاوم ويحقق نجاحات على الأرض بدعم من حزب الله وإيران وروسيا، وفي مصر التي أسقطت حليفهم محمد مرسي الذي فاجأ الرئيس باراك أوباما بحجم تجاوبه مع السياسة الأميركية وحركة "الإخوان المسلمين" الأمر الذي سينعكس على كل حركات الإسلام السياسي التي تبني عليها واشنطن في تحالفاتها الجديدة في المنطقة. وهل تريد إدارة أوباما التعويض عن فشلها في نجاح جوهري أم انها تريد إدارة للصراع لتمرير الوقت ورؤية ماذا يمكن أن يحصل في المنطقة خلال الفترة القادمة. وبالمناسبة هذا كان جوهر موقف نتنياهو الذي يقول إن المتغيرات في المنطقة لا تتيح التقدم في عملية السلام لأن المنطقة متحركة وغير مستقرة وأي "تنازل" إسرائيلي قد لا يكون له مقابل، إذا تم النظر للموقف في الدول العربية.
في المقابل هناك إسرائيليون يقولون إن الوضع في المنطقة يسمح بالتقدم وتحقيق الحل السلمي قبل حصول تغيرات قد تعيق هذا الحل، ومنهم من يرى في انشغال سورية ومصر بمشاكلها الداخلية وضعف "حزب الله" وأخيراً وضعه على قائمة الإرهاب في أوروبا وأميركا، وضعف حركة "حماس" بعد سقوط نظام مرسي و"الإخوان"، يؤمن جبهة هادئة لا توجد فيها قوى قادرة على إعاقة الحل وتخريبه، وهذه فرصة مناسبة لإسرائيل لاستغلالها من أجل التوصل إلى التسوية التي تمنع تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية.
اليوم توجد في إسرائيل أغلبية تؤيد حل الدولتين وإن كان من غير الواضح كيف يمكن انجاز هذا الحل وعلى أية أرضية، وهناك مجموعات ضغط من بينها مجموعة تضم 40 عضو كنيست تؤيد المبادرة العربية للسلام وحل الدولتين على أساس حدود العام 1967. وهناك إدارة أميركية مستعدة للمساعدة وتضغط باتجاه عودة المفاوضات فماذا يريد نتنياهو أفضل من ذلك ليقرر ويدخل التاريخ.
أما فكرة العودة للمفاوضات على أسس غير واضحة فتنطوي على مخاطر كبيرة وخاصة لدى الرأي العام الذي يمكن رفع سقف التوقعات لديه وإدخاله مجدداً في حالة من خيبة الأمل والإحباط اللذين قد يقودان إلى الفوضى والعنف خاصة مع استمرار اعتداءات المستوطنين وجرائمهم ضد التجمعات الفلسطينية القريبة منهم وعلى الطرقات، والفراغ السياسي لابد من أن يملأ إما بعمل سياسي جدي أو صدامات ومواجهات مع الاحتلال. وهناك المجتمع الدولي الذي بدأ يشعر بأهمية الضغط على إسرائيل.
بمعنى أن هناك خيارات سياسية غير التفاوض إذا فشلت محاولات كيري. وإلى حين يعود كيري إذا عاد تبقى الشكوك تدور حول إمكانية العودة إلى طاولة المفاوضات، إلا إذا تراجعت القيادة الفلسطينية وقبلت بما هو اقل من الحدود الدنيا التي تؤمن بداية معقولة للتفاوض.


