- والله العظيم انا مؤمنة ، ومش ذنبي اني احيانا بتلدغ من ذات الجحر مرتين ، طيب اعمل ايه يعني ، بلاش اشتغل ، والله بيكون احسن ، اقعد في بيتنا وكفاية علي تدريس العيال.
انفعلت وانا ارد على تعليقات الزملاء في المكتب الذين تحلقوا حولي ليستطلعوا ما وراء الحالة البائسة التي عدت بها من الميدان عودة جندي مهزوم في معركة بالسلاح الابيض .. قلت وانا احاول انهاء الحوار لاريح واستريح:
- عموما اللي حصل حصل ، انهونا
ربتت احدى الزميلات على كتفي وهي تقول بتعاطف واضح:
- طب هو ايه اللي حصل بالظبط ، فضفضي يالنا يمكن تستريحي.
كانني لم اع درس " دي دسيسه " جيدا ، او ربما هي قلة الخبرة بسيكولوجية الحشود البشرية .. اليوم الاحد والوضع مختلف تماما عما كان عليه يوم السبت ومتطابق الى حد بعيد مع ما كان عليه يوم الجمعة ، فكلاهما كان يوم مليونية بحق ، مع اقتراب ساعات المساء وبالتحديد بعد العصر بدأت الفراغات في ميدان التحرير تمتلئ ويكتمل تراص الكتل البشرية حتى بدا الميدان كله كتلة واحدة متلاحمة ..
فرحة الحاضرين عارمة كفرحة اول يوم لازاحة الرئيس مرسي ، المعزول وليس المخلوع ، عن السلطة ، والاغاني الوطنية كعهدها تخرق السكون وتملأ الدنيا زهوا وفخارا بامجاد مصر وجيشها ، وشعبها ايضا ..
المشاركون يرددون الاغاني الوطنية التي يحفظونها عن ظهر قلب ، بسم الله ، الله اكبر بسم الله بسم الله ، و انا الشعب انا الشعب لا اعرف المستحيلا ، و يا حبيبتي يا مصر يا مصر .. عشرات الاغاني التي لا يمل الناس هنا ترديدها او سماعها ، وكل كلمة منها تذكرهم بموقف او حدث او قصة او تاريخ ..
- يا استاذه هريتينا اغاني وطنيه
- انا وللا اذاعة المنصه ، انا مالي اذا كانوا طول النهار بيغنوا..
اجبت الحارس الذي كان يتعمد من وقت الى اخر الاشارة الى عشقي للاغاني الوطنية المصرية، وانا لا ازال ادندن ، يا مصر يا امنا ، رد الحارس باستفزاز واضح:
- طب ياستي غيري شويه ، ايه معندكوش اغاني وطنيه في فلسطين ، سمعينا حته كده..
- ياسلام ، غالي والطلب رخيص ، بتعرف تدبك ، علي الكوفيه علي ولولح بيها ، وغني عتابا و ...
كاد الحارس الآخر ان يضع يده على فمي لاسكاتي بحركة غير ارادية وهو يتلفت حوله في ذعر:
- ابوس ايدك بلاش ، متوديناش في داهية ، كوفية ايه وفي ناس هنا مستنيه كلمه وتلاقي الميدان ده كله بيجري ورانا ، ده اذا عرفنا نجري اصلا .
- عموما بلاها الكوفيه هنا ، نرجع لمصر امنا احسن ، مش كده برضو..
- براحتك يا استاذه ، واذا عايزاني اجيبلك مكريفون عشان تسمعي الميدان كله ماعنديش مانع ، بس بلاش الكوفيه بتاعتك دي وحياة ابوكي..
طائرات التدريب المتقدم ك 8 التابعة للجيش المصري تعود لمشاركة الشعب احتفالاته ، تشكيلات رائعة ترسم علم مصر بكامل الوانه كالعادة وتذيله و قلب يرمز لحبها .. الهتافات تشق الحناجر معربة عن امتنان الشعب لجيشه على إزاحته لمرسي وتخليصهم من حكم الاخوان ، لا تنسوا ان ميدان التحرير قاصر على المعارضة .. الصورة لم تتغير ، والوجوه ايضا لم يجد عليها جديد ، ولا الطقس قد خفف من وطأة عدائيته، يعني اما انه ماحدش قال لعين الشمس ما تحماشي ، او قالوا بس ما سمعتش كلامهم .. ميدان التحرير هذا قد اصبح ملكا للثورة وشبابها ولا احد يسمح بخروجه من حوزتهم ..
أعداد الجماهير كانت كبيرة الى حد بعيد وطبيعة تكوينها من توجه واحد هو باختصار كتلة المناوئين لحكم مرسي ومن خلفه الاخوان المسلمين ، ويتصدر هذه الكتلة تحالف شباب ثورة 25 يناير ، وحركة تمرد التي بدأت ثورة الثلاثين من يونيو التصحيحية ..
على المنصة الرئيسية كانت لافتة كبيرة تقول ان اليوم هو احتفال الاستقلال .. والهتافات كالعادة امتنان للجيش على تبنيه لمطالب الشعب ، وتكرار للاعراب عن السخط على سياسات الاخوان وممارساتهم ، ومن وقت الى اخر تعلو اصوات عاقلة محببة تدعو الى الوحدة الوطنية وعودة الجميع الى حضن مصر الدافئ ، وعفا الله عما سلف ..
ما اثار انتباهي في هذا اليوم هو الحضور النسائي الاكثر كثافة من ذي قبل ، والاهم من ذلك ان الكثيرات منهن قد جئن من اماكن بعيدة عن القاهرة ، كالاسكندرية على سبيل المثال لا الحصر ، مع ان في الاسكندرية ما يكفي وزيادة من ميادين تغص بالمحتفلين او المعترضين .
سألت امرأة من القادمات من الاسكندرية
- طب ليه ما فضلتيش في الاسكندريه ، هو مافيش هناك اعتصامات؟؟...
اجابت بعفوية :
- لا في طبعا ، وانا شاركت هناك ، بس هنا في ميدان التحرير شعور اخر ..الميدان ده ليه رمزية خصوصة ..و بحس بالامان اكتر
لم افهم اجابتها ، او بالاحرى لم اقتنع بها او ادقق في تلك الاسباب التي تجعلها تشعر بالامان اكثر في ميدان التحرير وهي من اهل الاسكندرية..
تغطيتنا الاخبارية للحدث سارت كالمعتاد واجراءات الاحتفال بيوم الاستقلال او يوم مليونية الشرعية الشعبية ايضا سارت على طبيعتها رغم تواتر الانباء عن اضطرابات ومناوشات ومواجهات هنا وهناك وسقوط قتلى وجرحى ، ومنذ بدأنا هذه التغطية من ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر واماكن تجمعات كل اطراف الازمة المصرية ، ونحن بشهادة الجميع نلتزم الحيادية المطلقة وننقل الواقع كما هو تماهيا مع المبدأ المعمول به في قناة الميادين .. ومع كل ذلك ، وعلى ما يبدو مع كل ما لذلك من عدم اهمية عند بعض المغرضين ، سمعت لغطاً من حولي وانا اقدم تغطيتي الحية المباشرة الاخيرة لهذا اليوم ..
- نزلوها ، سكتوها ، طلعوها بره الميدان...
لم اعر ما اسمع اهتماما كبيرا لكوني احتاج للتركيز فيما اقول على الهواء وايضا لسماع أسئلة وتعليقات الطرف الاخر في الاستديو .. لكن العبارات التي تكررت كثيرا على لسان بعض من تجمعوا خلفي صكت مسامعي ولم يعد تجاهلها ممكنا .. لم اكمل تغطيتي كما كنت اريد فقد رأيت علامات الخوف والاضطراب على وجه المصور بوضوح وسمعت اللغط يتعالي والايدي تمتد باتجاهي وانا اعتلي المنصة التي اقدم رسالتي من عليها ، فانهيت الحديث واستدرت لمواجهة الموقف ..
انتابني شعور بالارتياح في بادئ الامر فمعظم من حولي نساء اخر شياكة ويبدن من طبقة المثقفين وما فوق الطبقة المتوسطة مجتمعيا .. سألت وبراءة الاطفال في عيني :
- في ايه يا جماعه ، مالك يا مدام ، ايه اللي حصل ؟
الرد لم يأت من الهانم التي كانت تواجهني والشرر يتطاير من عينيها وكأنها عيني عنترة في موقعة يخوض غمارها دفاعا عن عبلته ، بل جاء تطبيقا عمليا على الارض لمبدأ ديمقراطية الحشود..
كل المحتشدين حولي والذين يحيطون بي احاطة السوار بالمعصم صاحوا صيحة رجل واحد او امرأة واحدة لا فرق:
- انتي بتهببي ايه هنا ، بتصوري ايه وبتقولي ايه ..
ماهذا كله ، هل انا في كابوس تحول الى حقيقة على غير العادة ، ام ان هناك من يعيد تصوير فيلم ريا وسكينة .. انا لا ابالغ ولا ارسم صورا من الخيال فحسب ، هكذا كان يبدو الوضع امامي ، نساء يحاصرنني من كل اتجاه ويقتربن مني شيئا فشيئا وكانني ارى ( الفوطة المبللة بالماء) في يد كل منهن وهي على وشك ان تكتم بها انفاسي...
- يا مدام في ايه ، يا جماعه مالكو ، ايه اللي حصل ؟!
بدأ الصياح الجماعي يتبلور في ذهني المضطرب
- انتو بتهاجموا الثورة ..
صحت بكل قوة من يتمسك باهداب الحياة:
- احنا !! ، مين قال كده ؟
رد رجل يقف خلف النساء ويبدو انه هو من اثار كل هذه الفتنة
ايوة انتي من شوية قلتي كلام زي العسل ... ايوة انتو بتقولوا على اللي حصل انقلاب ..
كتر خيرك يا عم ، يعني اجا يكحلها عماها ، واغلب الظن انه كان يقصد ان يعميها لا ان يكحلها .. اثنت السيدات المحيطات بي على قوله ، لاحظت ان بين الهوانم من يرتدين النقاب ، عقلي اضطرب قليلا لكن لم يكن هناك وقت للتحليلات ، ما اعرفه هو ان المنقبات يعتبرن اسلاميات متشددات فماذا يفعلن هنا في ميدان التحرير ، يبدو انه انشقاق على الجماعات الاسلامية ..
لايهم ، حظي العاثر قد الف بين قلوب الامة المصرية فاتفق ضدي تحالف قوى الشعب .. اضطررت تحت وطأة الخوف من انفجار الموقف وحدوث مالا تحمد عقباه ان اقسم لهن بالله العظيم واولادي ان هذا لم ولن يحدث .. وسألت من كانت الاقرب في مواجهتي
- طيب حضرتك شفتينا احنا عملنا حاجه زي كده ؟
اجابت ببرود اقرب الى الاستعلاء:
لا ، انا ما بشفش القنوات دي اصلا ، بس هو اللي بيقول ..
لا اله الا الله ، هو اللي بيقول ، هذه هي ديمقراطية الحشود ، واحد بيقول والباقون يثنون على قوله دون فحص او تمحيص ، وفي نهاية المطاف يتضح انهم شاهد ما شفش حاجه ، ولا تخرج من كل ذلك الا بتلك الكلمة الشهيرة ، قالولو.
الوضع تأزم ولا مجال للتفاهم ، والجماهير تبدو جادة في تخليص الثورة من فلول الاعلام المتذبذب الذي يصر على تبديد مكتسباتها .. ألهذا السبب يصفون الحشود الهائلة بالبحر متلاطم الامواج ، ليس لما يحدث فوق سطح الماء ولكن لما يكمن تحته ، الدوامة الخفية التي لا يراها الانسان الا بعد ان يقع في شركها وتبدأ في شده الى الاعماق حيث تجهز عليه ..
كيف أفلت من هذه الدوامة والمصور المرافق لي قد فر هاربا ، ويبدو انه معتاد على مثل هذه الازمات ويعرف كيف ينسل خارجا بسلام بدلا من الدخول في محاولات عقيمة لحوار طرشان وقعت انا عديمة الخبرة ضحية له .. اين الشرطة ، طيب اين الجيش ، الا يرسل طائراته الاستعراضية الان علها تشغل هؤلاء الهوانم عني !! واين منظمو الاحتفال ومنسقو القوى الثورية الذين كانو يسهبون في الحديث معي امام الكاميرا عن عدم الاعتداء على احد وعن تسليم اي شخص يشكون فيه الى الجيش لحمايته اصلا من غضبة الجماهير..
.. انا عايزه الجيش بأه .. استنو استنو ، اين حراسي الشخصيين ، اذا لم يكن هذا وقتهم فمتى يكون ، لا يستطيعون ان يدفعوا عني غضبة الجماهير فيؤثرون السلامة !! .. فلأعود اذن الى امي اسماء بنت ابي بكر فاقول لها ، يا ام ، قد انفض حراسي من حولي، واخشي ان تعبث بي هوانم بني المعارضة ويمثلن بجثتي ، فترد اسماء بكل برود وثقه ، وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها .. ذبحها !! لا بأه ، انا عايزة حماية دولية...
انفجرت في موجة بكاء هستيري ، صدقوني ليس خوفا فأنا رأيت الموت بأم عيني مرات ومرات خلال تغطيات سابقة ، لكنه كان يأتي من اتجاه واحد ، العدو الاسرائيلي ، اما اليوم فهو يأتيني من كل اتجاه ومن أعز الحبايب ..
شعوري بالقهر الشديد وانا ارى كل محاولاتي لاقناع هذا الحشد بكذب ادعاء من ادعى علينا زورا وبهتانا ، تسقط في هاوية عدم الرغبة في الاقتناع اصلا ، القى بي في اتون احساس متفجر بالضعف وقلة الحيلة فبكيت .. بدأت افهم سيكولوجية الحشود هذه ، انها تتحرك بشكل جماعي ودون تفكير ، فالعقول هنا معارة لمن يقود الجمع بكلمة تقنعه بأن ما يفعله هو في حب مصر اولا واخيرا وانه واجب وطني مقدس ..
لا ادري ما الذي خلصني من ايدي تلك الزمرة الغاضبة في اللحظة الفارقة بين الحياة والموت او بين الادمية واللا ادمية، اخر ما اذكره من هول الموقف ان الحشد المتحلق حولي قد تنامى وتعاظم بسرعة هائلة ولم يعد قاصرا على الهوانم والمنقبات وحتى الفضوليين من البائعين والبائعات ، رجال من كل الاعمار وشرائح المجتمع ، من الجلابية للبدلة السفاري هرعوا لتعزيز قوة الردع النسائية التي كانت تتصدى لي في خط المواجهة ..
الان عرفت المعنى الحقيقي لعبارة اللي ما يشتري يتفرج ، وبشكل عملي ملموس ، الم اقل لكم سالفا ان حظي العاثر زي بعضيه .. طريقك مسدود ياولدي، و حتى اليوم لا اعرف كيف خرجت من ذلك الكابوس المريع بسلام ، ولا اذكر الا ماعلق في نفسي من بشاعته، واعتقادي ان الفضل في نجاتي يرجع الى قاعدة ( صوابعك مش زي بعضيها ) وايضا على ما يبدو للحس النسائي بالتعاطف في نهاية المطاف مع من شعرن بصدقها ، وبأنها بنت ناس وغلبانه ومنكسره يا كبدي ، وبتجري على اكل عيشها .. معرفة السبب لم تكن تهم في ذلك الوقت من قريب او بعيد .. المهم يا روح ما بعدك روح .. خرجت من دائرة ريا وسكينة وانا لا ازال حية ارزق واسير على قدمي ، وقلت يا فكيك .
يتبع -


