الجيش يدفع بتعزيزات اضافية لتأمين ميدان التحرير ، وحركة محمومة لآليات الامن والشرطة ، وقبل ان تسأل يأتيك بالاخبار من لم تزود ، ومن كل مكان حولك ، مؤيدو الرئيس المعزول انطلقوا من ميدان النهضة في طريقهم الى ميدان التحرير ، يستبد القلق ويتعالى اللغط وتتسارع حركة يشوبها الاضطراب في كل اتجاه ، الناس هنا خبيرة بمثل هذه المواقف ، في وقت اكثر من قياسي تم تشكيل لجان شعبية للحماية وتأمين مداخل الميدان ، عشرات المتطوعين انضموا للمدافعين عن المداخل ، ولكن الشعور بالتوتر لم يخفف منه اي من هذه الاجراءات ..
الغضب والعناد والعنف ينتقل ويتصاعد على مبدأ الفعل ورد الفعل .. الفعل بدأه مرشد الاخوان المسلمين في مصر بخطابه المتشدد المنذر بالويل والثبور وبحتمية عودة مرسي للحكم ، وتوزيعه لنقده اللاذع في كل اتجاه ، وسحبه لشرعية التمثيل من شيخ الازهر وبابا الاقباط ، وحتى جيش مصر لم يسلم من تهمة الانحياز لفصيل دون اخر وهو ما يفهم من دعوة المرشد له بالعودة الى احضان مصر .. اما رد الفعل فقد بدأ على نفس القدر من التوتر والاستعداد لما هو اسوأ من قبل المعارضين للاخوان ، وانتهى الى ما هو اعنف نتيجة لتحرك انصار مرسي فيما اعتبره الكثيرون محاولة للاستيلاء على ميدان التحرير لاسكات المعارضة.
- معلش يا جماعه انا اسفه ، كان لابد من قطع البرنامج لاذاعة خطاب المرشد على الهواء.
كنت وزميلي موفد الميادين من الاردن نشارك في حلقة خاصة عن الصحفيين في الميدان وكانت على الهواء مباشرة ، ولكن بعد اعتذار مقدمة الحلقة لنا عن قطعها قمنا بتسجيل ما تبقى منها .. اثار خطاب المرشد قلقي فخشيت ردود فعل الجانب الاخر والذي سيستدعي بالتاكيد رد فعل على رد الفعل ، والحبل على الجرار ..انهينا الحلقة وعدنا الى المكتب لنوصل مقدمة البرنامج وزميلة اخرى.
- ياللا بسرعه عالميدان ، حالة طوارئ قصوى.
الله يسامحك يا صاحبة الجلالة مهنة المتاعب ، طيب خلينا نلقط نفسنا شوي . ياسيدي ، بالناقص التقاط الانفاس .. استعنا على الشقا بالله .
هرعت انا وزميلي والحراس الى السيارة وتوجهنا الى ميدان التحرير ، لم يدم تمتعنا بالراحة التي توفرها السيارة طويلا ..
- اركن العربية هنا
- طيب حنكمل بقية الطريق ازاي ؟
سألت بلهفة المشفق مما يتوقعه توقع الساهر حتى الصباح لشروق الشمس .. جاءني الرد من احد الحراس ببساطة من يبلغ عن فقدان علبة سجائره
- كعابي يا استاذه ، انتي نسيتي ولا ايه .. المشي صحه
صحة ايه ياعم الامن كله ، تقلش انا في حماية بلاك ووتر الامريكية .. لابد مما ليس منه بد ، هذا هو المفتاح السحري للتغلب على صعوبة اتخاذ القرار ، مكره اخاك لا بطل ، اذاً لا مجال للتفكير في بديل او مناقشة تبعات القرار .. ماشي يا مهنة المتاعب ، خلينا نشوف اخرتها معك
الطريق من المكتب الى ميدان التحرير طال وامتد فجأة كحبة الفول السحرية في افلام الكرتون ، والتي ما ان تغرس في الارض حتى تكبر وتكبر فتلامس السماء ، اكثر من ساعة ونحن نجد السير فيما لم يكن يتجاوز العشرة دقائق في الاحوال العادية .. الجيش كان قد اغلق الطريق الرئيسي فاضطررنا لقبول توجيهات كل من هب ودب
- ما تمشوش من هنا ، خطر اوي
- خدو الطريق ده أأمن
- لا لا ، ارجعو ، ده مقفول وفي مشاكل .. امشو من هنا
معلش يا قدماي ، ولك الله يا كل اعضاء الحركة في جسدي ، قلنالكم مكره اخاك لا بطل .. امشي يالنا ، امشي واديكي بتتسلي بالالعاب النارية التي لا تزال تضيء ليل ميدان التحرير من بعيد .. تسلية كانت تتكسر على صخرة الاشتباكات التي كنا نشهدها من وقت لاخر في طريقنا ، وايضا ازيز رصاص البنادق الالية والخرطوش
احمدك يارب ، صحيح قل لن يصيبنا الا ما كتب الله ، وكان الله قد كتب لنا السلامة في ذلك اليوم ودخلنا ميدان التحرير ان شاء الله آمنين ..
ياه يالنا ، كل يوم بيشحطوكي من الصبح عالميدان وبيسيبوكي تسيحي في الشمس اللي ماحدش عايز يقولها ما تحماشي ..طيب مش اشكال وربنا يسامحهم ، ولكن ما لم استطع التسامح فيه هو حرماني ،غير المتعمد طبعا ، من متعة التواجد في الميدان ليلا والطقس مختلف كليا عما هو عليه بالنهار .. الحرارة معتدلة الى حد بعيد ، والسماء صافيه والنجوم تتلألأ ، والجو العام رومانسي ، صدقوني انني رأيته هكذا ، ميدان التحرير رومانسي ايضا ولكن بالليل فقط ، رغم ما ينوء به كاهله من حمل ثقيل .
رومانسي مين ياعم ، هو احنا بتوع رومانسيه ، قدمت رسالتين على الهواء مباشرة في تلك الليلة والتوتر سيد الموقف في الميدان ، لكنه الان تعدى مرحلة التوتر الى مرحلة الخطر ..
- احنا ايش راح نسوي دلوقت
اطلقت سؤالي كقنبلة يدوية تنفجر في كل اتجاه ، وفي قلق وارتباك فضحته هذه الخلطة الفلسطينية المصرية للهجة عبارتي .. الجواب ايضا جاءني من كل اتجاه
- ارجعي للحتة اللي هناك دي ، وخليكي واقفه وسطينا
لم يفلح هذا الاجراء الامني الوقائي الذي اتخذه الحراس في بعث ادنى شعور بالامن والاطمئنان في نفسي .. الجو المحيط ينذر بحدث خطير ، والناس لا تكف عن الحركة والصياح وكأنهم في ميدان معركة.. الاخبار تترى ، طلائع المسيرة الاخوانية وصلت ماسبيرو ، مقر التفلزيون المصري واشتبكت مع المعتصمين هناك من انصار المعارضة ومع رجال الامن بالاسلحة النارية وقنابل المولوتوف ، ووقوع قتلى واصابات ، اصوات طلقات نارية من بنادق الية وخرطوش تصل الى مسامعنا بوضوح ، تصاعد الهرج والمرج وبدأ معظم المتواجدين في الميدان يركضون في كل اتجاه ويغيرون موضعهم لا لشي الا للاحتماء بالاحساس انهم قد فعلوا شيئا ..
كل المرافقين لي كانوا من المصريين المعتادين على مثل هذه المواقف ، انا اتبعهم الى حيث يتوجهون بلا نقاش او جدل ، نحن ايضا غيرنا مكاننا او فلنقل اعدنا التموضع في ذات المكان على ذات المبدأ ، الشعور باننا فعلنا شيئا ..
لم يمض وقت طويل حتى امتدت الاشتباكات الى عقر دارنا ، مدخل كوبري 6 اكتوبر من ناحية ميدان عبد المنعم رياض يشتعل بحرب ضروس ويشهد عمليات كر وفر مخيفة بكل معنى الكلمة ، هذا الميدان ملتصق بميدان التحرير الى حد يمكن معه اعتباره جزءا لا يتجزأ منه ..
صياح وصراخ من كل جانب يفعل الافاعيل ، وشباب يكسرون الارصفة ليحيلوا بلاطها الى حجارة تحسبا لاي عملية اختراق من جانب مؤيدي الرئيس المعزول ، بالمناسبة ، لماذا يتمسك المصريون بخصوصية التوصيف ، مبارك رئيس مخلوع ، ومرسي رئيس معزول ، كلاهما في نهاية الامر مخلوعان او معزولان ، او هما في كل الاحوال رئيسان سابقان ، اوليست مخلوع ومعزول تعنيان لغويا انهما قد تركا المنصب رغم انفهما ، صحيح ان مبارك قد تنحى ، ولكنه اجبر على ذلك اجبارا وفعله كارها وليس بمحض ارادته .. ما علينا ، وليس هذا وقت التفكير في ذاك اصلا .. الوضع تعدى حالة الانذار الحمراء ودخل حيز التنفيذ على الارض .. بان الامر جدا ، والاشتباكات توشك ان تجرفنا الى اعماقها كدوامة شرسة ، مجموعة من الشباب على مقربة مني تجتهد في تكسير البلاط وتحويله الى حجارة ، من يبدو وكأنه كبير القعدة او الوقفة يصيح بهم
- اعملك همه انت وهو ، متخلوش الطوبه صغيره اوي ، كبروها اكتر عشان لما تصيب واحد تجيبه الارض ، جمّعو الحجاره هنا وخلوها جاهزه ميه ميه .. خلي السلاح صاحي
ما هذا ، خلي السلاح صاحي ، اقسم لو ان عبد الحليم رحمه الله كان يعلم ان المصري سيستخدمها للتحفيز وهو يستعد لقتال اخيه لما غناها اصلا .. معلش يا عُبد ، بلاها خلي السلاح صاحي ، سيبهالهم وخليك على احلف بسماها وبترابها ، احلف بدروبها وابوابها ، بولاد الايام الجايه.. بولاد ايه يا عُبد ؟ ماهم دول ولاد الايام الجايه اللي حلفت بيهم ، ربنا رحمك وما عشتش لليوم ده .
احد الحراس يصيح بي
- انتي بتعملي ايه عندك ، ياللا مفيش وقت ..
لا اعرف اصلا ماذا كنت افعل غير اني كنت احدق من بعيد في ولاد الايام الجايه ، ثم ادور بعيني في كل اتجاه ربما لأستطلع الموقف جيدا وربما بحثا عن مخرج اكثر امنا من غيره ..
يا لسخرية القدر ، انا التي غطيت عشرات عمليات الاجتياح والعدوان الاسرائيلي ، وشهدت مئات عمليات القصف الجوي والبري في غزة دون ان تطرف لي عين او تعتري قلبي لحظة خوف واحدة ، اكاد ارتعد خوفا وقلبي يرتجف من هول الموقف !! وما الغريب او المستهجن في ذلك ، من جرب كل مواقف التغطية الخطرة للاحداث في غزة ، عليه ان يأتي هنا ليعرف الفرق ، هناك في غزة عدو واحد ومصدر واحد للخطر ، صحيح انه خطر قاتل واشد فتكا ، لكنه يبقى مصدرا واحدا محددا تعرف كيف تتجنبه في اغلب الاحيان ، وتعرف اين يتركز واين يمكن ان تتواجد لاتقاء شره ، اما هنا في ميدان التحرير ، فسعيكم مشكور ولا اراكم الله مكروها في عزيز لديكم
- استنو ، انتو وين رايحين ، مش شايفين الناس اللي جايه تجري ناحيتنا ، شكلهم من الاخوان
لم يهتم الحراس كثيرا بما قلت ، ويبدو انهم قد ادركوا ما ينتابني من وساوس كوني حديثة عهد بمثل هذه المواقف.. صاح احد الحراس
- يا استاذه ركزي معانا وخليكي وسطينا وملكيش دعوه باللي جاي واللي رايح ، احنا عارفين شغلنا
احمدك يارب ، هم عارفين شغلهم ، بس انا كمان حواسي الامنية وفوقها الحاسة السادسة وحاسة البقاء عارفين شغلهم .. من يضرب من ، ومن يقتل من ، ومن اين يمكن ان تأتيك الضربة ، وهل هذا الذي يركض في اتجاهك قادم لقتلك ام لمساعدتك على النجاة، وهل من يقف خلفك يحمي ظهرك ام ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليك ..وهل انت في محاولتك البحث عن مخرج آمن تفر من الموت ام تفر اليه .. موقف لا اتمناه لحبيب او حتى لعدو ، من منطلق التسامح طبعا
الحمد لله ، عدّت على خير ، ليس بالنسبة لكل الناس طبعا ، فهناك اعداد من القتلى واعداد اكبر من الجرحى والمصابين ، سقطوا في الاشباكات من اجل اللاشيء ، وبلا اي هدف عملي قابل للتنفيذ على ارض الواقع .. فكل هذه " الهوجه " كما يحلو للمصريين ان يسمونها لم تكن ولن تكون الا ضربا من الغضبة المضرية المعهودة ، ولا تلقوا بالا لكونها تهتك حجاب الشمس او تجعلها تقطر دما ، فهذا ليس سوى شطحة شاعر يتبعه الغاوون ، المهم ان الامور قد هدأت نسبيا في محيط ميدان التحرير بعد ساعات قضيتها فيما لا يمكن وصفه باقل من حالة قلق وخوف من كل شيء وعلى كل شيء .. فلننسحب الان بسلام من هذا المكان..
- انا من فتره طويله ما سمعتش ضرب نار ولا اي حاجه ، شكلها خلاص خلصت
رد احد الحراس وهو ينظر بعيدا باتجاه ميدان عبد المنعم رياض
- باينها كده
قلت وانا بين الخوف والتمني
- طيب مش نحاول نطلع من هنا ونرجع المكتب ، او توصلوني للاوتيل اقرب
- طولي بالك يا استاذه ، احنا هنا في أمان اكتر مما لو تحركنا بره الميدان ، ما تقلقيش ، احنا بنرتب مع زملاتنا اللي خارج الميدان وهم حيقولولنا لما الوضع يبقى آمن في الشارع
الوقت قد بدأ يوغل في الليل والشوارع خالية من حركة السيارات الا عربات الاسعاف وآليات الامن والجيش وكل ماله علاقة بزيادة حدة التوتر لدى من يشهده ، لابد ان اغادر الميدان او ابيت فيه ، وهذا ما لا يقبل عقلي مجرد التفكير في امكانيته وفي مثل هذه الظروف بالغة الخطورة
اعاد الحارس جهاز هاتفه النقال الذي كان يتحدث من خلاله الى موضعه في حزامه واقترب مني قائلا
- يالله بينا بسرعه
- على فين كده ؟
- حنحاول نوصل للمترو
فلنتوكل على الله ونلوذ بقوله تعالى ، قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا .. هدوء الشوارع المريب وخلوها من الحركة الى حد بعيد كان هو بالتحديد مكمن الخطر ، فعمليات الكر والفر التي تنقض فجأة ودون سابق انذار لا تحمل في طياتها غير شر مستطير ..
- انتي ركبتي المترو ازاي ، اتجننتي يا بنتي ، انزلي فورا
- لا حول ولا قوة الله ، في ايه بس في الليله اللي مش فايته دي ؟
صحت بزميلتي التي كانت على الطرف الاخر من الهاتف تدعوني الى مغادرة المترو فورا ، وكأن المترو به سم قاتل ، اقصد عبوات موقوتة قد تنفجر في اية لحظة .. ردت زميلتي وكأنها قد كانت تسمع ما يدور في ذهني
- يا بنتي ممكن ينسفو المترو ، اصلك ما تعرفيش الناس دول
لا وعلى ايه ، ياروح مابعدك روح ، نهضت من فوري وتبعني الحراس الى اقرب باب .. غادرنا المترو وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل ..
تاني يالنا ، كأني سمعت قدماي تصيحان بي او بالاحرى تئنان من هول ما تتوقعانه من العودة للسير على الاقدام وسط هذا الجو المشحون بما يشبه افلام الرعب .. المسافة الى الموت كانت هذه الليلة اقصر بكثير من المسافة الى الحياة .. فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان .
يتبع -


