تعددت القراءات واختلفت حول الحدث المصري.
جاء ذلك أساساً بسبب الحمولة الاستثنائية من الدلالات والمعاني والتأثيرات التي حملها الحدث، بالذات لجهة الطريقة التي حصل بها والأداء الذي أوصل إليه، وهما أمران جديدان لم تعهدهما المنطقة كلها من قبل. فلم يحصل في تاريخ المنطقة قبل ان خرج الناس بهذه الأعداد الهائلة وعلى هذه الدرجة من التنظيم والتنوع والسلمية ووضوح الهدف لتنجز التغيير المطلوب. ولا حصل موقف شبيه لموقف الجيش المصري حين انحاز الى حركة الناس وحماها وشاركها إنجاز عملية التغيير.
بين القراءات العديدة، ما كان منحازاً. والانحياز بذاته ليس أمراً مستحدثاً ولا مستغرباً، فقد حصل كثيراً بسبب من الالتقاء الفكري او السياسي او المصلحي او غيرها.
معظم القراءات المنحازة جاء مؤيداً للحدث ومرحباً به وشمل غالبية كبرى من جماهير المنطقة، لكن بعضها انحاز ضد الحدث وناهضه ودعا الى مقاومته. وهل يمكن تصور ان يقف أي فرع لجماعة الإخوان المسلمين او اي من حلفائها موقفاً ساكناً او محايداً تجاه اي حدث يحصل لفرع آخر؟ فما بالك والحدث بهذه الضخامة والخطورة ويحصل لمركز الحركة وقيادتها.
أيضاً كانت هناك قراءات مترددة وقلقة عبر عنها بأجلى صورة موقف الإدارة الأميركية. ببساطة لأن الحدث فاجأها بضخامته وفي توقيته وسرعة طريقة إنجازه. وليست صحيحة الروايات التي يؤلفها البعض عن القدرة الكلية للإدارة الأميركية وإحاطتها المسبقة بكل أمر يجري، بما يلغي أي دور للجماهير وإرادتها ويحول الجماهير وقواها الى مجرد دمى تحركها أصابع المايسترو الأميركي من وراء ستار.
الحقيقة ان الإدارة الأميركية راهنت على جماعة الإخوان المسلمين لقيادة الدولة المصرية وتحالفت معها ودعمتها بكل الوسائل بعد ان قبلت الحركة بكل شروطها، لكن الإدارة فوجئت مفاجأة كبرى بفشل تجربة حركة الإخوان بالحكم وبسرعة سقوطها، وهذا ما أدى الى ارتباك موقفها. لكنها تداركت نفسها وخرجت من ترددها بسرعة نسبية وبدأت التعاطي مع التغيير الذي حصل كأمر واقع.
اما حول الشرعية، فقد أنهى خروج عشرات ملايين الناس تفرض التغيير كل جدل حولها، ووضع نقطة النهاية على آخر صفحاتها.
لكن قلة متناقصة من أصحاب الرأي تستمر في الجدل من منطلقات مبدئية نظرية وحسنة النية.
اما جماعة الإخوان المسلمين وتوابعها فإنها تستمر في الجدل الصاخب حول الشرعية حتى يوفر لها ذلك مدخلاً وغطاء لرفضها ومناهضتها للتغيير، ولحشد أنصارها وتعبئتهم وقيادتهم في سعيها المحموم لإفشال الانقلاب (كما يسمون ثورة التغيير) والانتصار عليه. لكن عجلة الساعة لن تعود الى الوراء.
الحقيقة الأولى والاهم التي نتجت عن الحدث المصري، هي قدرة الجماهير على فرض إرادتها ونجاحها بالتلاحم مع الجيش في إنجاز التغيير وإسقاط حكم الإخوان وإسقاط رئيسهم. وهي حقيقة مفرحة.
اما الحقيقة المقابلة فهي حقيقة استقتال حركة الإخوان المسلمين لاستعادة حكمهم وإعادة تنصيب رئيسهم مهما كلف ذلك من ثمن ومهما كانت السياسات والوسائل التي يستخدمونها لتحقيقه. وهم جاهزون في سبيل ذلك لارتكاب كل منكر. وهي حقيقة تحمل الخطر على الوطن وعلى المواطن.
من اهم الوسائل التي يستخدمونها والمخاطر التي تحملها:
- حشدهم المتواصل لأنصارهم وحلفائهم والانطلاق في مسيرات فرعية كبيرة نسبياً ضد أهداف ومرافق عامة من اجل شل الحياة في العاصمة أساساً وصولاً الى العصيان المدني، مستخدمين العنف في ذلك ومستعدين لتصعيده الى مستوى السلاح. وهو ما يعقد حياة الناس ويهدد مصالحهم ويحمل الخطر الشديد على المجتمع والوطن بشكل عام.وجماهير الناس، بالتعاون مع قوى الأمن الداخلي، قادرون على التصدي لهذا المنكر وإفشاله.
- توسل التدخل الخارجي بأي شكل كان، حتى ولو جاء على حساب السيادة الوطنية.
- إيقاظ وتنشيط قوى الإرهاب في سيناء، وبدؤهم فعلاً القيام باعتداءات دموية ضد المواطنين وضد مرافق الدولة ومؤسساتها ورموزها. واستعداهم للذهاب في هذا الأمر الى أقصى مداه حتى لو وصل الى سلخ سيناء عن الوطن الأم، بما يرافق ذلك من سيناريوهات متداولة وفي منتهى الخطورة. وفي هذا المجال بالذات يعلو الحديث عن دور حركة حماس.
ان مشاركة عناصر من حركة حماس مع حركة الإخوان المسلمين احتمال غير مستبعد بحكم التلاقي الفكري والتنظيمي والسياسي. لكن هذه المشاركة يتم تضخيمها جداً، ويصل الشطط لدى البعض الى تعميم التنديد بهذه المشاركة على الكل الفلسطيني، وكأن هذه العناصر المشاركة هي كل "حماس"، وكأن "حماس" هي كل الشعب الفلسطيني وقطاع غزة هو كل فلسطين.
- ويبقى التخوف والخطر الأكبر في نظر البعض ما يهدد به استقتال جماعة الإخوان المسلمين لاستعادة حكمها من دفع المجتمع الى اتون العنف، وتهديدها بشق وحدة القوات المسلحة، كما ظهر ذلك في دعوة بعض رموزها ضباط وأفراد القوات المسلحة للتمرد على قيادتهم، وهو ما يهدد بتوليد حالة شبيهة لما حصل في العراق او ما يحصل في سورية. لكن استمرار تماسك القوات المسلحة بكل تشكيلاتها يقلل كثيراً من هذا التخوف والخطر، ان لم نقل يلغيه تماماً.
الحدث المصري، بما انجزه حتى الآن وضع تجربة حكم تيار الإسلام السياسي بشكل عام على سكة النهاية، وتواصله واستقراره سيضع المنطقة على سكة حال جديدة.


