يابلادي يا احلى البلاد يا بلادي .. فداكي انا والولاد يا ... توقفت عن الدندنة العفوية لاسأل نفسي على استحياء ، لماذا يطيب لي ان اردد كلمات اغنية شادية يا حبيبتي يامصر بهذا الشكل العفوي المتكرر وبكل هذا الحب .. انا فلسطينية ومصر ليست بلدي بالمعنى القانوني الذي تفرضه ادارة الجوازات والجنسية ، لكني بصراحة شديدة، ومن اخر الاخر ، احبها كما احب بلدي فلسطين ، احب كل شيء فيها حتى عفوية اهلها وفوضية شوارعها ولا مبالاة حاراتها .. احب هواءها ونبض الحياة فيها ، واحب شيئا لا اعرف ماهيته ، نعم لا اعرف تسمية محددة له ولكني احس به ، شيء استطيع ان اسميه الجو العام ، لا ادري ان كنتم ستفهمون ما اقصد ام لا ، ساحاول ان اوضح اكثر ، انه مزيج الاحساس بالمكان والناس والطقس والهواء والرائحة والشكل ، عندما يتحول كل ذلك من عامل معنوي الى عامل ملموس او تفاعل كيميائي ، نعم انها الكيميا كما يقولون ، مجرد ان اقف في الشرفة او انزل الى الشارع احس بدفقات من الشعور المنعش اللذيذ لا ينتابني الا في مصر ..
اليوم يوم الجمعة ، والمصريون المغرمون بالمليونيات قرروا ان تخرج اليوم مليونية تحت عنوان تسليم السلطة .. مهمتي لا تزال هي تغطية الاحداث في ميدان التحرير وفي يوم كهذا سيكون للميدان نصيب الاسد من الكتل البشرية المتوقع مشاركتها في احتفالية النصر ..
ليلة امس عدت منهكة بعد يوم طويل سبقته ليلة عملت فيها حتى الثانية صباحا ، ارهاق كاد يوصلني الى مرحلة الانهيار ، لكني نلت قسطا لا بأس به من النوم ، واستطيع ان اطمئن الى قواي الجسدية وقدرتها على احتمال ضغط العمل اليوم ..
الوقت لا يزال مبكرا على بدء الاحتفالية والتي جرت العادة ان تعقب صلاة الجمعة .. خرجت الى شرفة غرفتي المطلة على النيل ، يا الله ، كم هو ساحر هذا النهر العظيم ، هو ببساطة مصر لكنه ايضا بجمالها الذي يأخذك أخذ عزيز مقتدر فلا تستطيع منه فكاكا ، تذكرت اغنية عبد الحليم ، يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا اسمر ، كم يتباهى المصريون بسمار بشرتهم ويفخرون ايما فخر بلونهم القمحي الذي هو لون نيل مصر ، لماذا يختلفون ويتصارعون ورسول الحب هذا النجاشي يسيل بين الشطين من اقصى مصر الى اقصاها ، هذا نيل للرومانسية والحب وليس للاقتتال والحرب ، ام انه الزمان لم يعد يسمح للجميل بان يقعد معاه على شط النيل ..
دق جرس هاتفي ، لابد مما ليس منه بد ، ما تزعلش يانيل ، رجعالك تاني ، بس يسمح الزمان ..
- صباح القشطه .. الحمد لله كله تمام .. انشاء الله .. ساعة بالكتير وحكون مستنيه في اللوبي
هو ميدان التحرير ويوم اخر ، يوم جمعة الاستقلال ، خضعت كالعادة لتفتيش حقيبتي عند دخول الميدان ، الحركة كانت انسيابية لا تشوبها اية عراقيل، وعملية التفتيش وقائية بحتة تترافق مع الاطلاع على بطاقات تحقيق الشخصية وتتم بشكل ودي لا انفعال فيه ولا محاولة اذلال او استفزاز ، وفي معظم الاحيان يقوم بها افراد من اللجان الشعبية وتشارك فيها نساء للحفاظ على الخصوصية وتجنب اية شبهة تحرش او خدش حياء ..
- وين راح نقف اليوم ؟
سالت احد الحراس المرافقين لي وانا احاول ان اجاريهم في سرعة الحركة بين الجموع ، فرد باقتضاب وهو يتابع فتح طريق لي
- نفس المكان
- بس اليوم العدد راح يكون اكبر كتير والميدان زحمه اكتر من كل يوم .
رد حارس اخر كان الى جواري:
- حاولنا نلاقي مكان رايق ومأمون ومتصل بالميدان ما امكنش ، اي مكان زي كده لازم يكون بعيد عن الناس
انتهيت من سباق الحواجز المعتاد من صعود سلالم والقفز فوق عوائق مصطنعة حتى وصلت الى المكان الذي نعتقد انه اكثر امنا واستقرارا من بقية زوايا الميدان واركانه ، بدأنا الاستعداد للتغطية ، الاعداد لاتزال محدودة نسبيا وهذا لم يكن مستغربا فصلاة الجمعة لم تنفض بعد .
نبض الميدان لازال على حاله من الحيوية والنشاط ، لكل وافد الى الميدان مسعاه وكل يغني على ليلاه ، لكنهم جميعا يلتقون على الهدف المحدد ، خليط متباين ومتجانس في آن واحد ، متباين في الثقافة واسلوب التعبير وردود الفعل وحتى في القدرة على الاستيعاب واحتواء الاخر ، ومتجانس في اللون والروح والطبيعة الانسانية وخفة الظل ، وفي الملامح والقسمات ، فلا احد يستطيع ان يعرف ما اذا كان هذا اخوانيا ام معارضا ، واطلاق اللحية ليس مقياسا فمن انصار الاخوان من لا يطلق لحيته ومن العلمانين انفسهم من يفعل ذلك على سبيل الموضة، ويلتقي هذا الخليط المتباين المتجانس اكثر ما يلتقي على حب مصر ..
عاملة النظافة في الفندق ، مصرية في الخمسينات من عمرها ، تبدو كسائر الامهات الطيبات في مصر ، سألتني وانا اغادر الغرفة هذا الصباح وهي تدخلها للقيام بعملها.
- الهوجه دي حتخلص امتى يا هانم ، الحاله بقت ضنك اوي والعيال قاعدين لا شغله ولا مشغله غير المظاهرات والحاجات التانية اللي بيعملوها.
اجبتها بابتسامة شاحبة وكلمات اكثر شحوبا:
- كله على الله يا حاجه ، ان شاء الله خير.
لا ادري لماذا جمحت بي رغبة في المشاغبة ، عدت الى الحاجه اسألها:
- انتي تعرفي ايه عن الهوجه دي يا حاجه ؟
قالت وقد باغتها السؤال بما لم تكن تتوقعه.
- ازاي يا بنتي ، اعرف كل حاجه طبعا ، هو احنا لينا شغلانة الا التلفزيون والاذاعة ، وده قال وده عاد وده عمل وسوى ، بس النصيبة ان كل واحد بيقول كلام غير اللي بيقوله التاني .. بيني وبينك انا حاسه من كل الكلام ده انه الولاد وقعوا في بعضيهم ، وربنا هو المنجي ، دي مصر غاليه علينا اوي.
لم ار في حياتي شعبا كشعب مصر يمكن ان يختلف على كل شيء ، لكنه يلتقي وبقوة على حب بلده ، وليس حب شعارات وخطب جوفاء لكنه حب حقيقي ينبع من اعماق القلوب ، انا احسست به ولمسته وهو يتدفق من عيون المصري عندما يتحدث عن مصر وكأنها معشوقته وليست فقط بلده او حتى امه .. ويختلفون وقد يقتتلون ، هذا هو المضحك المبكي ، يلتقون على حب مصر ويختلفون في حبها ، لك الله يا ام الولاد ، السمر الشداد ، قدرك ان يقع الولاد في بعضيهم ..
- يا ربي ، بس لو الحر هادا يخف شويه
زفرتها من اعماقي وانا احاول استغلال قطعة من الكرتون في المهمة المستحيلة ، فحتى ما كانت تستجلبه من هواء لم يخل من حرارة لافحة
الحر قائظ ، هذا تعبير لا اشعر انه يصف الوضع كما ينبغي ، الحر خانق لافح حارق ، نعم انه كذلك خانق حارق ، والناس صابرون ومصرون على ان يحتفلوا بانتصارهم على ما اعتبروه استبدادا وتبديدا لمكتسبات ثورة يناير .
الاغاني الوطنية المصرية لا تختلف عن اغاني العشق والطرب ، والحق انها تدغدغ المشاعر وتهذب الاحاسيس ، وترتقي بالروح الى اعلى سماء ، الجموع بدأت تتدفق على الميدان وكأن السماء تمطرهم مدرارا ، تزاحم الوافدين على الميدان يتفاعل مع شدة الحر فيخلق جوا من الرغبة في خروج الانسان من جلده ، التركيز في شيء واحد هنا مستحيل ، الا الحرص على البقاء ليس حيا فقط وانما سليما معافى ايضا ، حتى عند تقديم رسالتي المباشرة للقناة التي اعمل بها ، لا اسمع اسألتهم في معظم الاحيان ، ولا استطيع ان اصف دقائق الصورة او فسيفسائها ، لكني بالخبرة والسليقة استعيض عن ذلك برسم صورة عامة لما يحدث .
اجماع على ان تدخل الجيش لم يكن انقلابا ، واجماع على ان عزل مرسي وجماعة الاخوان كان ضروريا الى حد انه اصبح مسالة حياة او موت ، لا تنسوا انني في ميدان التحرير وهو التجمع الرئيس لقوى المعارضة ، واجماع ايضا على رغبة اكيدة من الجميع في طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة لا اقصاء فيها ولا استبعاد لاي حزب او فصيل بما في ذلك تنظيم الاخوان ، ان امكن ..
- احلى ناس بتوع الصحافه .. ربنا يكون في عونك يا استاذه ، شغل على ميه بيضه ، ياعم حد يقول لعين الشمس ما تحماشي ، بلاش الاستاذه تاخد ضربة شمس .. صوري ، صوري الخلق دي كلها ، وقولي للناس أد ايه احنا فرحانين انها غمه وانزاحت ..
- ميرسي ، احنا بنعمل اللي علينا.
- ميت فل وعشره يا استاذه ، اتفضلي ، حاجه على ما قسم كده.
طيبون هؤلاء المصريون ، لا يستطيعون اخفاء مشاعرهم حتى ولا من قبيل النأي بالنفس عن المشاكل او على مبدأ وانا مالي ، يطلقون النكات في كل الاوقات وبشكل عفوي يجعلك تتقبلها حتى لو كانت تستفزك لسبب او لاخر ، ويتغزلون في المرأة بكلمات لا تكلف فيها ولا محاولة استعراض مهارات بغرض الابهار ، كلمات بسيطة بساطة زهرة برية لم تتفتح بعد ، فلا تملك المرأة الا ان تضحك في قرارة نفسها .. ويعبرون عن شعورهم بالامتنان لكل ما نعانيه من اجل تغطية الحدث بحبة شيكولاته ، نعم ، قدم لي احدهم حبة شيكولا وهو يبتسم امتنانا وتعاطفا معنا في ما نؤديه من عمل شاق ، فأخذتها وانا اكثر امتنانا لحرص هؤلاء الناس على المجاملة المحببة ..
ثلاثة ايام في ميدان التحرير كانت كافية لاعتاد المكان وتزول من نفسي رهبة الالتحام بالكتل البشرية الهائلة وما قد يسببه من متاعب ربما تصل حد المصائب . فيما عدا القيظ الشديد والافتقار الى ادنى حماية من تسلط الشمس الحارقة لم يكن في ميدان التحرير ما يثير القلق ، خصوصا والناس هنا كلهم من تيار واحد ، وبالتالي ينعدم احتمال اقتتالهم معا ، الا ما قد يدب من شجار في الاحوال العادية ، والايقاع السريع للحياة في الميدان لا يترك للانسان فرصة للشعور بالملل ، هتافات واغاني وصيحات من هنا وهناك ، ونداء باعة ، وحلقات شعر وكأنه سوق عكاظ ، واذان يرتفع ليذكر الناس بالصلاة فيصلون ، او يذكر اخرين بمرور الوقت ..
بس لو حد يقول لعين الشمس ما تحماشي !
تغطيتي للحدث تستمر في انتظام لا يعيقة عائق .. فجأة يسري الخبر سري النار في الهشيم .. اللهم اني لا اسألك رد القضاء .


