المتتبع للاحداث في مصر يدرك أن الصراع بين القوى الإسلامية التي أُبعِدت عن السلطة بالقوة وبين خصومها لا يتجه الى تسوية مقبولة على الطرفين وإنما الى صراع أهلي طويل قد يأخذ مصر الى المجهول، ولا تتوقف علامات ذلك على المشهد الإعلامي وحده، واستمرار اعتصام "رابعة العدوية"، وإنما أيضا على وجود قطيعة بين الطرفين وحوار من خلال البيانات والبيانات المضادة وليس عبر طاولة دائرية للحوار.
منذ إجبار الإخوان على مغادرة الحكم، يشن إعلام النظام القديم، نظام مبارك، حربا لا هوادة فيها على الإخوان لشيطنتهم وتكريه المصريين بهم.. وهو يترافق مع حملة كراهية ضد "الفلسطينيين والسوريين" على حد سواء.. وهو كما يبدو جزء من مخطط لا يستهدف فقط التمهيد لتدخل الجيش لفض اعتصام رابعة العدوية بالقوة مع ما يرافق ذلك من سقوط عدد كبير من الضحايا، ولكنه يشي بوجود نية لمطاردة الإخوان ومحاصرتهم خلال المرحلة القادمة.
إن استمرار اعتصام رابعة يشكل مأزقا للفريق الحاكم حاليا في مصر. فهو أولا يؤكد أن هنالك قطاعات شعبية ليست بالقليلة غير راضية عن الانقلاب (حتى لو كان مدعوماً بعمق شعبي)، وهذا يعني أن خارطة الطريق التي أعلن عنها الفريق الحاكم تواجه أزمة شرعية لا يمكن إدارة الظهر لها. الاعتصام يشكل رسالة مفتوحة لجهات مؤثرة في العالم بأن المسألة لم تحسم بعد في مصر وأن من المبكر جداً التعامل مع الفريق الحاكم حالياً وهو ما قاله كيري وزير خارجية أميركا وما عبرت عنه أشتون، ممثلة الاتحاد الاوروبي.
استمرار الاعتصام يرافقه بالطبع استنزاف لموارد الدولة الشحيحة أصلاً، وهو عامل طارد للاستثمار بصفته مؤشراً على انعدام الاستقرار، وهو ثالثاً معطل للحياة اليومية في القاهرة ومحافظات أخرى عديدة خصوصاً وأن المعتصمين ومؤيديهم يتحركون كل عدة أيام باتجاه وزارات أو يقطعون بعض الشوارع متسببين في زيادة عمق الاحتقان والأزمة في البلد.
هذا المشهد لا يمكن له أن يستمر طويلاً لأنه يجسد أزمة الشرعية ويخلق حالة من عدم الاستقرار لأصحاب المصالح الاقتصادية ولأجهزة الدولة عموماً، لهذا سنشاهد في الأيام القادمة عملية "فض" للاعتصام بالقوة وأياً كانت تكلفتها البشرية، والشواهد على ذلك كثيرة ونجدها في الإعلام الرسمي وهي تبدأ من أن اهالي رابعة العدوية قد أمهلوا المعتصمين بعض الوقت لفض اعتصامهم وإلا فإنهم سيقومون بفضه بالقوة.. وتمر.. بما ادعته قناة التحرير عن وجود صواريخ "غراد" لدى معتصمي رابعة سيقومون باستخدامها ضد مراكز سيادية في الدولة.. ومن المؤكد أنها لا تنتهي عند تحميل غزة، يعني "حماس"، مسؤولية نقص الوقود والمواد التموينية في مصر بفعل التهريب عبر الأنفاق. الهدف بالطبع ليس "حماس" التي جرى إقفال الباب الوحيد عليها (معبر رفح) وهدم عدد كبير من أنفاقها ولكن تحميل إخوان مصر مسؤولية الخراب الاقتصادي في مصر.
يعزز الشعور باقتراب انتقال الصراع لمرحلة أعلى هو انعدام قنوات الاتصال بين الطرفين. الجيش يتحاور مع المعتصمين بالبيانات التي تلقيها الطائرات على المعتصمين، والإخوان يرفضون استقبال المتحاورين من الجيش أو ممثليهم، ويرفضون حتى الرد على مكالماتهم الهاتفية بحسب تصريحات الدكتور عصام العريان، والأهم من ذلك أن الإخوان يشترطون لبدء الحوار عودة الرئيس مرسي وهو شرط غير مقبول على الجيش والقوى المتحالفة معه لأنه يشكل جوهر المشكلة.
إن من الغباء الشديد الاعتقاد بأن فض اعتصام "رابعة" بالقوة سينهي الصراع.. لأن ما سيحدث سيكون عملية نقل للصراع لمستوى أعلى وبكلفة أعلى.
لقد بنى الإسلاميون جميع مواقفهم وسياساتهم على أرضية أن قبول نتائج انتخابات الصندوق والتصالح مع الغرب، ومهادنة إسرائيل تحت مسمى احترام الاتفاقات ستعطيهم الفرصة أن يحكموا وأن يبرهنوا للناس بأن لديهم برنامجا للنهوض ببلدهم من فقرها وتخلفها.. وبغض النظر عن "قناعتنا" بأن برنامجهم فاشل من أوله لآخره لأنه بدأ بالتحالف مع قوى الثورة المضادة والحفاظ على نفس سياسات النظام القديم ولكونه لم ينحز للفئات الشعبية التي صنعت ثورة 25 يناير، إلا أن ذلك كله بلا قيمة لأن قناعة الإسلاميين مختلفة وهي قائمة على الاعتقاد بأن "طهارة أيديهم" بمعنى مكافحتهم للفساد، كانت ستكون كافية لإقناع الناس بانتخابهم مجدداً وبالتالي الاستمرار بالسلطة عبر البوابة الديمقراطية.
الآن يستيقظ الإسلاميون على فكرة أن كل تنازلاتهم كانت بلا ثمن بعد أن تم أخذ الحكم منهم بالقوة المسلحة. المتتبع لأحاديثهم على مواقع التواصل الاجتماعي يدرك أن لحظة الصدام قريبة وهي لحظة مشحونة بالمرارة.. الإسلاميون بالطبع لم يروا الملايين التي خرجت ضدهم ورأوا مشهد الدبابات التي تتحرك باتجاه القصر فقط وهذا ليس من باب "العمى أو ضعف النظر" ولكن لأن آخر حساباتهم كانت أن ينقلب "الجيش عليهم" بعد أن اعتقدوا بأنهم نفذوا كل ما من شأنه المحافظة على حكمهم بما في ذلك إبقاء معبر رفح مغلقاً.
اليوم وصل الإسلاميون لمرحلة الكفر بصناديق الاقتراع وبكل اللعبة السياسية. سيناء تشتعل.. محافظات جنوب مصر لم تهدأ منذ إقالة الرئيس مرسي، ومذبحة قصر الاتحادية أضافت أحقادا جديدة وفتحت الطريق لصراع مفتوح لأنها كسرت إمكانية بناء الثقة مجدداً بالعملية السياسية خصوصاً وأن المذبحة قد أعقبها بلاغات باعتقال قادة من الإخوان بحجة التحريض على العنف.. والأسوأ من كل ذلك، إعادة فتح القضاء لقضية "هروب" قادة الإخوان من سجن النطرون للقضاء مجدداً.. وهو شيء مسيء لقادة الإخوان ومهين للثورة نفسها، خصوصا وأن عشرات السجون قد تم اقتحامها يوم 28 يناير من قبل ضحايا النظام القديم، لكن وحده سجن النطرون يتم البحث في تفاصيله.
لم يبق إذا غير مشهد أخير قبل رؤية لحظة الانفجار الكبير.. الانتقال من الحشد الجماهيري في الشوارع الى "خلايا الظلام" وتصفية الحسابات. هذه اللحظة مرتبطة بما سيحدث في رابعة العدوية. الجيش يتجه للحسم، يريد استغلال لحظة الكراهية العالية من قبل جزء من الشعب المصري للإخوان لانه لا يستطيع أن يقوم بذلك دون غطاء شعبي.. لكنها ستكون مغامرة القرن.
إنهاء اعتصام "رابعة" بالقوة يعني ترجيح كفة الصراع بين أجنحة الإخوان لحساب القوى الاكثر تشدداً وتصلبا والتي لم تكن منذ البداية مقتنعه بالعملية السياسية، مضافا له بالطبع كل الجماعات الجهادية، وما أكثرها في مصر.
إن المهمة الرئيسة اليوم لجميع القوى التي صنعت 25 يناير هي منع الانزلاق بهذا الاتجاه الدموي.. خطوط الاتفاق قد تبدو بعيدة المنال لمن يتمترس حول فكرة "إقصاء الآخر" بأي ثمن، ولكنها قريبة جداً إذا ما تم استحضار أهداف ثورة يناير.. العدالة الاجتماعية والحرية ومحاسبة من قتل وسرق وعذب هي أهداف يلتف حولها غالبية المصريين.
إذا تخلى عقلاء الإخوان عن فكرة عودة الرئيس مرسي، فهو لا يحظى في اللحظة الراهنة بإجماع شعبي، وإذا تخلى عقلاء القوى الوطنية عن فكرة الاستقواء بالجيش، يمكن للطرفين الالتقاء مجدداً ووضع خارطة طريق جديدة للمرحلة الانتقالية.. لكن الطرفين بعيدان عن ذلك الآن والفرصة كما يبدو ضيقة وكل يوم يمر تصبح فيه بعيدة المنال.


