و من جديد ، يا حبيتي يا مصر يا مصر ، ولكن هذه المرة من قلبها النابض وفي حضنها الدافئ ، من ميدان عظمتها وتاريخها النضالي المبهر ورمز ثوراتها تغيرية كانت ام تصحيحة .. من ميدان التحرير مهد كل انواع المشاعر والعواطف بدءا بالخيفة والتوجس وانتهاء بالتفاعل والفرحة والحب لمصر واهلها بكل مشاربهم وتوجهاتهم والوان طيفهم السياسي والديني والاجتماعي لا فرق ، وللكتابة من اعماق الكتل البشرية المتراصة مذاق اخر ، وللحديث المتدفق من عيون المصريين الغارقة في انهار القلق والخوف حينا ، والمحلقة في اعلى سماوات الفرحة حينا اخر ، والهائمة في ملكوت حب مصر في كل الاحيان ، نكهة قد يصعب على من لم يرتشفها باستمتاع ولذة قهوة الصباح بعد ليلة حالمة صاخبة ، ان يدرك كنهها او يفك شفرتها.
- فاتك نص عمرك ، ياللي ما شفت مصر .. مصر هي امي ، نيلها هو دمي ..
اذاعة المنصة لا تتوقف عن البث واثارة الضجيج في كل الاوقات ، لكني كنت استمتع بما تذيعه من اغاني وطنية الى حد انني في الاوقات التي لم اكن فيها على الهواء ، كنت اشارك الاذاعة والجماهير احيانا الغناء ، واحيانا اديها سولو وادندن بمفردي .. وربما كان ذلك بالتحديد ما شجع احدهم على سؤالي
- حضرتك مصرية يا هانم ؟
اجبته بشكل تلقائي ودون ان اتوقف لحظة للتفكير
- ايوة مصرية ، اذا كان معنى مصرية اني بحب مصر وبعتبر ام الدنيا هي امي كمان
- اصلي حضرتك ملاحظ ان حضرتك حافظة الاغاني الوطنية وبتغنيها طول الوقت .. بس اللي محيرني حضرتك ان لهجتك شامية
اجبته بشيء من الدهشة
- وهو حضرتك ما ينفعش تكون لهجتي شامية واحب مصر او اكون مصرية؟
رد بنبرة اعتراها الخجل والتردد وكأني قد افحمته.
- واللهي ما قصدي يا مدام ، بس انا حضرتك يعني حسيت انك بتحبي مصر اوي وفي ذات نفس الوقت فهمت من كلام حضرتك وتقريبا من شكلك انك مش مصرية فحبيت استفهم من باب العلم بالشي ء ليس الا.
انتابتني رغبة في التحدي ، قلت كمن يفجر قنبلة لم يعد يهمه ماذا ستكون نتائجها.
- يا سيدي انا فلسطينية ، ومن غزة كمان
كان الرجل مهذبا كما يبدو فابتلع كلمات كانت ستخرج من فمه دون ارادته .. قال بشيء من التوتر وكثير من المجاملة:
- اهلا وسهلا ، شرفتينا ياهانم ، بس ياريت متقوليش الكلام ده لاي حد هنا، انتي عارفه ولاد الحرام ماخلوش لولاد الحلال مطرح .
ولاد الحلال و ولاد الحرام ، في ايه ياعم .. قبل ان استرسل في جر الشكل كما يقول المصريون ، همس احد الحراس في اذني:
- لمي الدور يا استاذة ، الناس هنا مشحونة ضد الفلسطينيين وخصوصا اهل غزة ، اصلو حماس بتاعتكو زودتها اوي في سيناء وحتى هنا كمان ، يعني الناس بتعتبرها هي الاخوان ، والجيش اصلا او الداخلية حذروا العرب من الاقتراب من اماكن الاعتصامات.
حماس والاخوان ، وزودتها ونقصتها ، وسينا والارهاب .. متى سيكف العرب ، كل العرب عن تعليق مشاكلهم واخطائهم ، بل وخطاياهم على شماعة الفلسطينيين ويحيلونها الى مزيد من الهم والغم والمعاناة؟؟ .. ما علينا .. عدت للغناء ، بالاحضان بالاحضان بالاحضان .. بالاحضان يا بلادنا يا حلوه بالاحضان ..
ميدان التحرير الذي كان في ثورة الشتاء ، 25 يناير ، قطعة من الزمهرير اضحى في ثورة الصيف هذه حمام ساونا وبكل ما تحمله الكلمة من معنى ، لكن الغريب ، وهو ما اكده لي المعتصمون هنا انهم بالفعل لا يشعرون او على الاقل لا يأبهون بقيظ الصيف كما لم يعيروا انتباها للبرد القارس في الشتاء ، اما انا فلا اخفيكم انني كنت اتصبب عرقا واكاد ارفع الراية البيضاء.
وابحث عن ظل ظليل يعصمني من لفحة الهجير ، ولكن هيهات ففن البقاء في هذا البحر المتلاطم من البشر يقتضي ان لا تغفل عينك لحظة واحدة عما حولك والا تحاول التنقل من مكان الى مكان..
ذكرتني لفحة النار بعبد الحليم يغني لست قلبي ، لكنه هنا في الميدان نسي وجع قلبه ولم يذكر الا انه حبيبها ، فطفق يغني والجماهير تردد خلفه ، وانا كمان ، احلف بسماها وبترابها ، وخلي السلاح صاحي ، وبلدنا عالترعة بتغسل شعرها ، جالها النهار ماقدرش يدفع مهرها.
ياالهي كيف يجيد المصريون مزج الحس الوطني المرهف بالحب الحقيقي ، حتى ربابة وردة الجزائرية تغني اليوم للنصر، حلوه بلادي السمرا بلادي الحره بلادي ، وشادية تتغنى بحب الولاد السمر الشداد وكل مافات اللي معداش على مصر ، والجماهير التي كانت بالامس الاربعاء تختزل كل شعاراتها وتدمج كل هتافتها في صيحة واحدة ، ارحل ، ركنت الى الهدوء والطمأنينة اليوم وهي تطلق العنان لقلوبها تفيض حبا لمصر ، ولما لا وقد كفاهم جيشهم شر القتال ، واثبت على ارض الواقع ان الشعب والجيش يد واحدة كما يحلو لهم ان يهتفوا بين الفينة والفينة ..
ما نفذه جيش مصر يصعب وصفه بالانقلاب على الشرعية ، فالشعب هو مصدر السلطات وهو بالتالي عنوان الشرعية ، وايضا لا يمكن القول بان الجيش قد عمل حسب ارادة الشعب ، فليس كل شعب مصر من اراد ما فعله الجيش ، ولكن الجيش قد قدّر ، ولا يحسبه الكثيرون قد بالغ الى حد الشطط في تقديره ان الغالبية العظمى من شعب مصر هي التي ارادت فنهض بواجبه واستجاب لارادتها ، اي ان الجيش حسب مفهوم من هم ضد الاخوان قد نفذ انقلابا ليس على الشرعية ولكن لصون الشرعية ، تماما كما فعل في يوليه عام 1952 حين انقلب على ملك فاسد مستبد ، وفعل ذلك منفردا ولكن بالتماهي مع ما يريده الشعب فكان انتصارا لارادة الجماهير .
لا يزال هناك متسع من الوقت قبل ان يحين موعد الرسالة الحية التالية .. انا متعبة والملل من رتابة تكرار الاحداث يزيدني تعبا ، تمردت على الميدان فقررت الذهاب الى مقهى بلادي .. المقهي قريب وبعيد في ذات الوقت ، تماما كتناقض كل الاشياء في زمن الثورة والثورة لانقاذ الثورة وهلم جرا .. هو قريب من حيث المسافة ولكن لاصل اليه لا بد ان ادور حول رأس الرجاء الصالح كما يقال .. اضافة اخرى للمعاناة والارهاق الجسدي ، لكن الجلوس في مقهى بلادي وسط هذا الحشد المتباين المتوافق المتناقض يعوضك عن كل التعب والارهاق، الى حد ما ..
- تشربي ايه حضرتك ؟
قذفني النادل بها ، ولا بلاها النادل وخلينا بلدي احسن ، قذفني الجرسون بها وهو يضع الصينية بما عليها من اكواب على الطاولة المجاورة ، وكأنه في سباق توصيل طلبات.
- أي حاجة ساقعة...
اجبته وانا اجول ببصري فيما حولي لالتمس له العذر على تعجله الذي لا يليق في الاحوال العادية . كان المقهى يغص بالرواد ، او بالبلدي على بعضه ، رجال ونساء من مختلف الطبقات ، والكل يشبع هوايته في الحديث ولا يترك لك مجالا لاصاخة السمع حتى تفهم ما يقولون ، فالصوت المرتفع هنا سمة غالبة ، ولم يكن النقاش يقتصر على الجالسين الى كل طاولة على حدة بل ينتقل احيانا من طاولة في طرف المقهى الى اخرى في طرفه المقابل ، فيسمع كل من بالمقهى وجهات النظر ويصبح من حق الجميع المشاركة بمداخلاتهم وبدون الحاجة لمن يدير الجلسة.
تشاغلت عن كل تلك البرامج الحوارية بمحاولة توصيل اللاب توب بالانترنت ، فهذه ميزة اخرى في مقهى بلادي ، الهوت سبوت ، اللاب توب او الايباد يتصل هنا بالانترنيت فيصبح المكان مثاليا للصحفيين ..
- والا ايه يا استاذه ؟
- نعم ، حضرتك بتكلمني انا ؟
- ايوه حضرتك ، ايه رايك في اللي بيقوله الاخ ؟
- اخ مين ، مش دايره بالي..
قطب الرجل الذي كان يوجه الحديث الي من مجلسه على الطاولة المجاورة جبينه وهو يحدق النظر فيّ فادركت انها عبارة مش دايرة بالي قد استفزت حواسه ، سارعت بالقول:
- مش واخده بالي ايه الحكاية..
-لم ينخدع بتغيير ، او محاولة تغيير اللهجة ، سألني سؤالا اخباريا وليس استفهاميا..
- هو حضرتك مش من هنا ؟
اجبته بكل ثقة...
- لا ازاي ، طبعا من هنا ، بس كنت مركزة في اللاب توب حبتين..
- براحتك ، حضرتك الاخ ده مصر على انه تدخل الجيش يعتبر انقلاب عسكري ، وانا بقول الكلام ده افترا ، حضرتك باين عليكي صحفية او ليكي في اللون يعني ، نورينا برايك يا استاذة...
تلكأت في الاجابة قليلا ، ليس لعدم قدرة على تحليل موقف الجيش او وجهة نظر الاخوان ، ولكن خوفا من الوقوع في المحظور ، ماذا لو ان رايي لم يعجب احد الاطراف ، وهو بالتاكيد لن يعجب الجميع .. خليني في السليم احسن ، اجبت محدثي..
- والله هي الحكاية مش كده بالزبط ، لكن في بيقولوا كده وفي بيقولوا كده وربنا يجيب اللي فيه الخير..
لم يعجبه ردي لكنه انشغل بهجوم مباغت من احد الجالسين الى طاولة اخرى كان مخالفا له في الرأي .. انتهزت الفرصة وعدت احاول وصل اللاب توب بالانترنيت ، لكن السؤال ظل يطن في رأسي وانا استعيد في ذهني اراء كل من سمعتهم يفتون في هذه المسألة .. بعض المثقفين يحاول ان يتعلق بحبال الديمقراطية ويعتبر ماحدث انقلابا عسكريا ، وبعض الواقعيين لا يهمهم توصيفه قدر ما يفرحهم انه قد ازال الغمة وانقذ الامة من حرب اهلية ..
تمنيت في تلك اللحظة لو استطيع الانتقال الى رابعة العدوية حيث يعتصم الاخوان المسلمون وانصار الرئيس المعزول لاقوم بالتغطية من هناك ، والقي الضوء على وجهة النظر الاخرى ، فانا بكل صراحة لم اكن مع هذا ولا مع ذاك ، لكني كنت بقلبي وعقلي وكل جوارحي مع مصر حبيبتي ...
موجات الحب التي تتدفق في كل اتجاه مع حركة الجموع كانت تستقر وادعة مستكينة على شاطئ الجيش الى حد العشق الحقيقي .. يخرجني من تأملاتي هذه ضجيج طائرات قد اعتدت وانا ابنة غزة ان اميزه من على بعد، واعتاد هو ان يطلق كل صافرات الانذار في راسي ، الطائرات الحربية الاسرائيلية لا تعرف المزاح ولا تطلق اغنيات او تلقي على الناس اعلاما ، لكنه الموت يسري في ركابها اينما ذهبت .
الكتل البشرية من حولي تهلل وتكبر وتشق هتافاتها عنان السماء ، هذه ليست طائرات اسرائيلية كما اعتدت ، لكنها طائرات الجيش المصري ، وهي لا تحمل الموت بل تحمل الحب ، لحظات اختلطت علي فيها المشاعر وتضاربت الاحاسيس ، عيناي تكاد تذرفان الدمع لولا حياء ممن حولي ، ما كل هذا الحب ، الطائرات تحلق على ارتفاع منخفض وكأنها تريد ان تلامس جباه الناس وتمسح حبات العرق الذي يتفصد منها ، وايدي كل المصريين في الميدان ترتفع الى اعلى في رغبة اكيدة بمصافحة الطيارين ، والسماء من فوقهم تتزين بعلم مصر بكامل الوانه رسمته الطائرات ، ومعه قلب .. نعم قلب .. ترى هل اكون قد بالغت لو بكيت..
صدقوني انني سمعت الطائرات تغني ، اقسم ان ازيزها كان غناء بكل ما للغناء من شجن وطرب .. فرحت كثيرا بما رايت وما كنت قد رايته ولا توقعته يوما ، بدأت ارسم صورة في خيالي لما يحدث امامي ، هذا لقاء الابناء بأبيهم والاخوة باخيهم بعد طول تيه وفي اللحظة الفارقة بين الحرب والسلام ، بين الاقتتال وبين حقن الدماء ، بين جحيم الفتنة وجنة عودة التوحد واللحمة ..
لا ادري ما الذي حدث لي ، ولا اعرف هل اصيب بوصفه لكم ، ام اخطئ بنشر مكنون قلبي على الملأ ، انا بكيت بالفعل ولكن دموعي لم تسل على وجنتي بل سالت في قلبي بحرقة نار وهجير عبد الحليم ولكن ليس لحب فاقد المعالم والهوية او قلب يتبرأ منه صاحبه ، وانما لحب مفقود من حال مبتداه ، وقلب كاليتيم في مأدبة اللئام .. وحاشى ان اكون قصدت باللئام ايا من اهل مصر الذين احب من كل روحي ودمي ، فهي شهادة للحق والتاريخ انني لم القَ منهم وسط كل تلك الجموع في ميدان التحرير لئيما او وغدا ، ولم ارَ حركة بذاءة او خدش حياء ، ولا سمعت كلمة سوء واحدة تجرح المشاعر وتدمي الاحاسيس ، لكني ، ولا تلوموني ، قد داهمني فجأة وانا اعيش تلك اللحظات الرائعة شعور باليتم و وجدتني ، واللهم لا حسد ، اغبط المصريين ما لهم من عمق شعبي يتجسد في حائط الردع المسمى جيش مصر ، خط دفاعهم الاخير حين تدلهم الخطوب ويتعذر التوافق وتبغي طائفة على اخرى ، في اللحظة الفارقة بين الحوار والاقتتال وبين الديمقراطية والاستبداد ينقض كالنسر فيكفي الشعب مؤونة الحسم بالدم والنفس والنفيس.
لماذا لا يتوفر لنا ذلك نحن الفلسطينيون ؟؟، هي حضارة سبعة الاف عام في مصر ، وحضارتنا الضاربة في عمق التاريخ حتى كنعان ذاته ، من شو بتشكي ، اهي الدولة الحقة بمؤسساتها في مصر ، ونحن لماذا نرضى بدولة ليست دولة ونسميها سلطة ، ثم اليس لنا اجهزة امنية وامن وطني بكل ما تشتهي الانفس من مسميات ومواصفات !! لماذا لا تنأى هذه الاجهزة الامنية وهذا الامن الوطني بنفسها عن الحزبية والفصائلية وتنحاز للشعب الفلسطيني ، كل الشعب وليس فقط من يدور في فلكها ، لماذا لا تنقض هذه الاجهزة وهذا الامن الوطني كالنسر في اللحظة الفارقة فتنهي الانقسام وتعيد الوفاق والوئام ؟ لماذا لا ..
لماذا ماذا ؟؟ ما الذي دهاني فبدأت اسأل ما لا يحتمل السؤال ، ولا يفهم منه غير التمني وليس البحث عن الجواب .. ابتلع قلبي دموعي ولا اراه الا قد اصبح خبيرا بذلك ، وعدت استمتع بما ارى .. جماهير تغني فتتزلزل الارض طربا ، وعلم مصر بكامل الوانه يزين السماء .. وقلب .. مؤكد انه قلب مصر ، ينبض بحب ليس كأي حب ..
وتلومونني لو بكيت !! وما فؤادي حديد ولا حجر !!
يتبع -


