كثيرة ومتنوعة الأحداث المهمة التي تستحق الملاحقة بالتحليل والاستنتاجات، فضلاً عن الملف المصري المفتوح، الذي يستحق المتابعة العميقة، باعتباره الملف الأكثر حيوية وتأثيراً في المحيطين القريب والبعيد، والملف الذي يحدد إلى حد كبير ملامح التغيرات الجارية في المنطقة العربية وجوارها.
سنقفز في هذا المقال عن تطورات الأوضاع في مصر، لكن لبعض الوقت فقط، ونكتفي منه بالتعبير عن الأسى والألم الذي يعتصر قلوب كل الفلسطينيين جراء الأصوات التي تصدر عن بعض رجالات بل مقامات الرأي العام المصري، وبعض الإعلاميين ووسائل الإعلام التي تواصل عن غير حق شيطنة الفلسطينيين.
منذ أن عرفنا المستشار المحترم، رئيس نادي قضاة مصر، أحمد الزند، ونحن نكن له كل التقدير والاحترام، لجرأته، وصلابة مواقفه، وسداد رأيه، إلى أن زل قلبه ولسانه وعقله فاعتبر بإصرار أن معظم الفلسطينيين يضمرون الحقد والكراهية لمصر.
كان ذلك مفاجئاً وصادماً، لأنه يصدر عن شخصية محترمة، لم نتوقع منها أن تضل السبيل كما فعل، لأنه كان عليه إما أن يحتكم إلى الحقائق، وهذه لا تزكي رأيه بالمطلق، وإما أن يحتكم إلى لغة العقل، وهذه أيضاً لا تزكي رأيه، لأنه كان عليه أن يدرك بأن حب مصر أو كرهها ليس خياراً، وإنما ينتمي إلى باب الضرورات العفوية الخالصة.
ليس لفلسطيني أن يكره أم الدنيا، وصاحبة أعرق الحضارات على وجه الأرض، وقلب الأمة العربية، التي إن صلح حالها صلح حال الأمة، وإن أصابها سوء أصاب الأمة بأكملها. وحتى لو أننا أحلنا الأمر إلى لغة المصالح، فإن مصلحة الفلسطينيين الدائمة تكمن في الحرص على أفضل وأقرب العلاقات مع مصر أياً كان وضعها وأياً كان من يسوسها.
ندرك بطبيعة الحال حالة الاستقطاب السياسي الشديد في مصر، التي تتداخل فيها علاقات جماعة الإخوان المسلمين بحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، غير أن هذا الإدراك لا يبرر على الإطلاق شيطنة حماس أو شيطنة أهل قطاع غزة، ولا يبرر على الإطلاق شيطنة الفلسطينيين، اللهم إلا إذا كان هناك من يعتقد ولا نظن أن هناك من يعتقد في مصر، أن المصلحة تقتضي فك أواصر العلاقة البنيوية والتاريخية والطبيعية مع فلسطين قضيةً وشعباً.
يخطئ بعض الفلسطينيين إزاء كيفية التعاطي العملي مع الشأن المصري، لكن الحكمة تقتضي القصاص من المخطئ بقدر خطئه، وإعمال القانون المصري على كل من يرتكب جنحة أو جرماً يمس بسيادة مصر، ومصالحها ورموزها، لا أن يؤخذ الصالح بجريرة الطالح.
لقد عهدنا من كتيبة الإعلام التي تقدمت صفوف حركة التغيير في مصر، التزامها بالروابط التي لا يمكن فصلها بين مصر وفلسطين، وكذا يفعل السياسيون والمثقفون، ولذلك فإننا نتطلع إلى هؤلاء جميعاً لكي يصححوا المفاهيم والممارسات الخاطئة، وأحياناً الانتقامية التي تصدر بحق فلسطين وأهلها.
لقد قرأنا البيان الذي صدر بهذا الخصوص بتوقيع عدد من الشخصيات السياسية والثقافية، غير أن الأمر استفحل إلى حد الحاجة لحملة مركزة لتصحيح المسار، يرافقها إجراءات عملية ملموسة إزاء كيفية التعامل مع المواطن الفلسطيني في المطارات، وفي معبر رفح، وإزاء متطلبات وحاجات سكان قطاع غزة الذي يتعرض للحصار.
محطتنا الثانية التي توجب معالجة أوسع وأعمق، لكن المقام لا يتسع لذلك، تتصل بما يسمى خطة "برافر"، التي اعتمدتها الحكومة الإسرائيلية وتقضي بمصادرة نحو ثمانمائة ألف دونم من أراضي السبع، لإقامة مدن استيطانية يهودية، ما سيؤدي إلى تهجير نحو خمسين ألف فلسطيني.
هذا المشروع الذي تصدى له سكان السبع، وتضامنت معهم الجماهير الفلسطينية في اراضي 1948، يشكل دليلاً قاطعاً على الطابع العنصري الذي يميز السياسة الإسرائيلية. المشروع ينطوي على نكبة أخرى بحق جزء من أصحاب الأرض، ومقدمة لفهم السياسة الإسرائيلية المستقبلية التي تسعى لفرض الطابع اليهودي على الدولة، والذي يفترض التخلص بطرق مختلفة من أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، أي ما يوازي أكثر من عشرين في المائة من سكان الدولة العبرية.
بهذا المعنى فإن مثل هذا المخطط التهجيري العنصري البشع، يمس في الجوهر بمصالح كل الشعب الفلسطيني داخل وخارج أرض فلسطين التاريخية، ما يفرض على الفلسطينيين تحشيد قواتهم كل قواتهم لمجابهته. إن إسرائيل تستغل انشغال العرب بحركات التغيير، والصراعات، والاضطرابات التي تعاني منها المنطقة، وتعتقد أن الفرصة مواتية للنجاح في مخططاتها.
على أن الحكومة الإسرائيلية التي توصف بأنها حكومة استيطان، لا تدرك أبعاد ما تقوم به، والذي قد يؤدي إلى اندلاع انتفاضة عارمة على غرار ما وقع في يوم الأرض العام 1976، وبما يؤدي إلى اضطرابات داخلية شديدة التأثير على استقرار الجبهة الداخلية.
وإذا كان مثل هذا المخطط يضع ما يسمون أنفسهم قوى السلام واليسار في إسرائيل أمام امتحان حقيقي، فإن انتفاضة يقوم بها الفلسطينيون في اراضي 1948، كفيلة بتحريك الجماهير الفلسطينية على كل الأرض الفلسطينية، وبما يتجاوز قدرة القيادات السياسية الفلسطينية على التحكم بتداعياتها وأبعادها.
يؤسفنا في هذا المقام أن تقوم الشرطة في قطاع غزة بقمع ومنع العدد القليل من الشبان، الذين خرجوا إلى ساحة الجندي المجهول تضامناً مع أهلهم في السبع، سواء كان ذلك بذريعة عدم وجود ترخيص أو كان تخوفاً من تطور الاحتجاجات على خلفية محاولات بعض الشباب الفلسطيني للتمرد، على غرار ما جرى في مصر.
إن حركة حماس، شأنها شأن كل القوى والفصائل الفلسطينية الوطنية وباعتبارها جزءا أصيلا من مكونات الشعب الفلسطيني، معنية ومسؤولة عن قيادة الجماهير الفلسطينية للقيام بدورها في تقديم كل الدعم الممكن لأهلنا في داخل اراضي 1948، ولا نزال بحاجة لمبادرتها على هذا الصعيد.
محطتنا الثالثة تتعلق بالزيارة السادسة التي يقوم بها وزير الخارجية الأميركية جون كيري، الذي يندفع على ما يبدو بحماس شخصي لإقناع أو إرغام الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على استئناف المفاوضات. كيري يدرك الحقائق جيداً، بما في ذلك أن السياسة الإسرائيلية لا تؤمن بالسلام ولا برؤية الدولتين، وأن السياسة الإسرائيلية هي المسؤولة عن تعطيل عملية السلام، وأنها تتعمد توجيه الإهانة لوزير الخارجية الأميركي، حين تعلن في كل مرة يزور فيها المنطقة، عن المزيد من البناء الاستيطاني.
ويدرك كيري أيضاً أن الطريق إلى السلام، مليء بالعقبات، وأن بلاده تتحمل مسؤولية كبيرة إزاء هذا الوضع، الذي لا يتغير إلا إذا غيرت الإدارة الأميركية سياستها المنحازة لإسرائيل، ورغم ذلك فإنه يتابع.
يبدو أن كيري يراهن على ضعف الوضع الفلسطيني وغياب الخيارات، وسط انشغال عربي، الأمر الذي يرتب على القيادة الفلسطينية اتخاذ مواقف حازمة إزاء هذه المراهنة، ونحو وضع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أمام مسؤولياته.
ثمة بدائل بالتأكيد أولها متابعة العمل من خلال الأمم المتحدة، وثانيها تعزيز التحالف مع روسيا والصين، ودول أوروبا الغربية، بما يهدد استمرار الولايات المتحدة في احتكار ملف عملية سلام الشرق الأوسط.
أخيراً، لم يتبق وقت طويل على المهلة المحددة، للبدء بالمصالحة الفلسطينية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، وما يستتبع ذلك من خطوات. على أننا ونحن نتحدث عن قرب هذا الاستحقاق، نعلم بأن مياهاً كثيرة، وتيارات قوية جرت في المحيط الفاعل ذي العلاقة مع ملف المصالحة، ونقصد في الأساس ما جرى ويجري في مصر.
وفق كل الحسابات فإن الظرف ملائم تماماً لحركتي حماس وفتح، وفي إطار الجماعة الوطنية، للدخول في حوارات معمقة لتدارك ما تم تجاوزه في اتفاقيات المصالحة، وبحيث يتم التوصل إلى استراتيجيات وخيارات وبرامج سياسية جامعة، لا يمكن دونها الاطمئنان إلى سلامة مسيرة المصالحة، حتى لو تمت وفق التفاهمات السابقة.


