من المكتب في حي العجوزة بالقاهرة الى ميدان التحرير على الضفة المقابلة للنيل ، طريق قد يستغرق دقائق معدودات او ساعات بحسب حالة المرور او الوضع الامني ، بمعنى ما اذا كانت هناك مسيرات او اشتباكات او اعتصامات اصبحت كالملح في طعام المصريين ، ليس رغبة فيها ولكن كرها على كره ..
لم اكد استحضر الحالة المزاجية التي تتناسب مع جمال المكان وذكرياته الحلوة في زمن الاستقرار حتى بدأ يتناهى الى مسامعي جلبة تشبه فيما تشبه هدير موج البحر .. سألت دون ان اوجه السؤال الى شخص بعينه من المرافقين لي في السيارة
- ايه الدوشه دي ؟
جاءتني الاجابة سريعة وبخفة الدم المصرية المعهودة
- ابتسمي فانت بينك وبين ميدان التحرير فركة كعب ، دي عقبال امالتك هتافات الجماهير تشق عنان السماء
ابتسمت ، ليس لهتافات الجماهير ولكن للطريقة التي يهون بها المصريون على انفسهم عناء ما يجيش بصدورهم .. عدت اسأل ولكن هذه المرة لأهون على نفسي انا ما يجيش بصدري
- واضح ان الضجة تثور وتسكن بشكل متناسق وكأنها تصدر عن كتلة واحدة
اجابني احد الحراس المرافقين لي بلهجة جادة تتناسب مع ما سيدلي به من معلومات وكأنه جاب التايهه على قولة المصريين
- كل المعتصمين في ميدان التحرير يجمعهم توجه واحد هو المعارضة ، او من اخر الاخر كده ، كلهم ضد الاخوان ، وان كانوا يتبعون في الاساس احزابا او حركات مختلفة ، ومن يحركهم الان هو تنسيقية 30 يونية ، استجابة لدعوة حركة تمرد
قبل ان اكمل قولي ، افادكم الله ، كانت السيارة تقف على اطراف الميدان ونغادرها لنكمل المشوار سيرا على الاقدام .
بمفردي وبدون عون او توجيه من احد ها أنا وجها لوجه مع الحدث في ميدان التحرير ، بحر بدأت أسبر أغواره مع اول تغطية حية لي من هناك .. كتل بشرية هائلة تتحرك في كل اتجاه وفي ذات المكان ، الضوضاء تكاد تصم الاذان ، خليط من الاغاني الوطنية والخطب السياسية العصماء ونداءات الباعة وصياح من يصيح بهدف او بلا هدف ..
كيف ساتعامل مع هذا الموقف المتفجر ، ومن يضمن لي ان هذه الحشود لن تنقلب الى فرق متصارعة في لحظات ، ومن يستيطيع ان يؤكد لي انني لن القى مصرعي في اول حركة تدافع غير محسوبة لهذه الكتل الجماهرية .. كل تلك الوساوس والتساؤلات لم يعد لها مكان في عقلي مع اول دقيقة من مواجهة الكاميرة وبدء التغطية المباشرة للحدث
- ماهي مطالبكم بالتحديد ، وماهي خطتكم او استراتيجيتكم لتحقيقها .. انتو عايزين ايه بالظبط ، وحتحققوه ازاي ؟
كان هذا هو السؤال الاساس الذي يطن في راسي كنحلة مشاغبة فاصدّره الى من يقولون انهم منسقو هذا التجمع
- عايزين مرسي يرحل ، وعايزين الجيش يتدخل ويخلصنا من الاخوان ، ومش حنمشي من الميدان الا لم نتأكد ان مطالبنا اتحققت
اليوم لايزال يوم الاربعاء والمهلة التي منحها الجيش لاطراف النزاع في مصر تنتهي في هذا المساء ، اي بعد ساعات فقط .. القلق هو سيد الموقف ، لا احد يدري الى ماذا ستؤول الامور ، لكن التوجه الجماعي في الميدان كان التعلق باهداب الجيش كمخرج وحيد من الازمة ، كل من تحدثت اليهم او سمعتهم يتحدثون كانوا يتلهفون على تدخل الجيش لحسم الامور ، وكل من في ميدان التحرير يشتركون في ذات الاماني والتطلعات وحتى التوقعات ، ان يتحرك الجيش وينهي حكم الاخوان في مصر ..
زالت رهبة المكان من نفسي مع اول مواجهة مع الجماهير ، واستعدت ثقتي بقدراتي بعد اول تغطية حية على الهواء .. سكنتني الحالة المصرية باسرع مما كنت اتوقع ، اصبحت اتحدث عن ما اراه واسمعه وكانني جزء لا يتجزأ منه ، واشعر بنفس الاحساس الذي ينتاب المصريين من خوف وقلق ورهبة في الصدور من احتمال انكفاء الامور الى الاسوأ
- عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية ، وكرامة انسانية ، فين ده كله يا استاذه ، مشفناش حاجه من ده ، مرسي ماعملش اي حاجه ، تقدري تقوليلي حاجه واحده عملها صح
نظرت الى محدثي في صمت ولم اجد جوابا ، لكني لم استطع ان امنع كلماته التي يرددها كل المصريين من ان تظل تعصف براسي .. عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية .. وايضا كرامه انسانية .. كلام جميل وكبير اوي ، ازاي مرسي ماقدرش يحققه لكل المصريين في سنه واحده ؟!
مر الوقت كما لم يمر من قبل بالنسبة لي ، كان سريعا وبطيئا في وقت واحد ، سريعا بما تقتضيه الحركة الدؤوب في الميدان والتي رأيتها اول ما رأيتها تفسيرا عمليا لتعبير زوبعة في فنجان ، ليس لان ما يجري هنا لا اهمية له او هو حدث عابر لن يقدم ولن يؤخر ، وانما لكون الزوبعة تدور في مكانها لا تبرحه ، وكأن احدا قد قذف حجرا في بركة ماء ، تكبر دوائر تأثيره دائرة تلو الاخرى حتى تتلاشى عند اطراف الميدان ولا تتعدى حدوده .. وكان الوقت يمر بطيئا بفعل القلق مما هو آت ، وانتظار حدث فارق هو ما سيأتي به الجيش المصري بعد انتهاء المهلة التي حددها لاطراف النزاع وكانت ثمانية واربعين ساعة ، وقد اضفى على ذلك اليوم اثارة غير عادية موقف الاخوان الرافض لانذار الجيش والمترفع عن اية حلول الا ما تراه الرئاسة وما سارت عليه الجماعة من طرق مسدودة لحوار طرشان مع المعارضة او ما يسمى بجبهة الانقاذ ..
كل ذلك كان كغيمة سوداء تظلل ميدان التحرير فتنشق الحناجر عن هتافات معادية للاخوان ومطالبة الرئيس مرسي بالرحيل وللجيش بالتدخل ، انها العبارات التي لم تتغير والهتافات التي يبدو انها قد اصبحت موروثا ثوريا في الياذة الحالة المصرية ..
حل مساء اول يوم لي في ميدان التحرير وقد بدأت الاعتياد على الوضع ، واصبحت افرق بين الاطراف الضحلة والبؤر العميقة واين ينبغي ان اتوقف والى اين يمكن ان اتوغل ، وفوق ذلك كله لم يعد يستفزني كل صوت اسمعه او يخرجني مما ينبغي ان اركز فيه هتاف من هنا او صياح من هناك او حتى دائرة تأثير حجر القي في البركة تتكسر تحت قدمي ..
- ياعم شوف الساعه بقت كام .. المهلة خلصت خلاص ، بلاش لكاعه بأه .. ياللا يا سيسي ورينا حتعمل ايه
عبارة كانت تتردد في الميدان من وقت الى اخر كصياح ام تحذر ابنها كلما ابتعد عنها وخشيت ان يبتلعه الزحام .. وغالبا ما كانت تعقبها نوبة هتاف حفظته عن ظهر قلب .. انزل يا سيسي ، مرسي مش رئيسي
مهلة الجيش قد انتهت وبدأ العد التنازلي ، ومعه بدأت وتيرة الهرج والمرج في ميدان التحرير تتصاعد ، وهتافات المطالبة برحيل مرسي وحث الجيش على حسم الموقف تزداد تسارعا وصخبا الى حد اكاد اجزم معه انها لم تتوقف دقيقة واحدة .. اما سيد الموقف فقد اضحى بالفعل هو خوف ورهبة تميلان الى التشاؤم .. ما الذي سيفعله الجيش الان وقد انتهت مدة انذاره ولم يستجب الاخوان ولم يتزحزح الرئيس عن موقفه قيد انملة ..
اقترب مني رجل عجوز لا يبدو عليه الاهتمام كثيرا بمظهره او هندامه .. سألني بلهجة لا تخلو من الطيبة وربما شيئا من السذاجة
- طمنيني يا بنتي ، ايه الاخبار
لم يكن اول من فعلها ، فالناس هنا يعتقدون اننا مصدر رئيس ومطلع للاخبار ولا يعرفون اننا في معظم الاحيان نكون منقطعين عن العالم الخارجي لتركيزنا في عملنا الاساس وهو تغطية الحدث من الميدان .
- خير يا حاج ، اطمئن وريح بالك عالاخر
- ربنا يبشرك بالخير يا بنتي ، كفايه بأه عايزين نروّح بيوتنا ونشوف اكل عيشنا ، رمضان داخل علينا ، اللهم بلغنا رمضان برحيل الاخوان
بعد قليل سننقل اليكم بيان الجيش .. عبارة احتلت معظم ان لم يكن كل شاشات التلفاز في مصر والمنطقة العربية بأسرها ، وفي الميدان كانت اذاعة المنصة الرئيسية تنقل التطورات اولا بأول .. وطال الانتظار .. ساعات والغيمة السوداء لا تزال تظل ميدان التحرير ، والحناجر لم تكل هتافها وصياحها ، ارحل ، ارحل ، ارحل .. وكل الاحتمالات قد قتلت بحثا كما يقال ، ولم يعد هناك من طريق ثالث الا انتظار ما سيعلنه الجيش ..
وقال الجيش كلمته بعد طول انتظار مختتما بها اول يوم في مهمتي الاعلامية بميدان التحرير .. وتبددت الغيمة السوداء التي كانت تظل الميدان بفعل شراسة هجوم الالعاب النارية واشعة اقلام الليزر التي احالت السماء الى صفحة مضيئة ستسجلها ملحمة الحالة المصرية بكل تأكيد ، خيرا كانت ام شرا .. الفرحة كانت اكبر من ان توصف ، وان تعيشها مع كل تلك الجماهير احساس لا يمكن ان يقارن بمجرد مشاهدتها على شاشة تلفاز ..
يوم من عمر الزمان مضى في ميدان التحرير بفرحة واستبشار ورضى ملايين المصريين ، وايضا بحزن وتشاؤم وغضب ملايين المصريين .. شاركت من في الشارع فرحتهم في تقرير اعددته تلك الليلة عن استقبال الشعب لقرار الجيش بعزل الرئيس ، ورغم كل حياديتي كصحفية وبغض النظر عن توجهاتي السياسية وجدت الابتسامة تعلو وجهي ككل من يحيط بي .. تاكدت ان السعادة كالخوف والقلق تنتقل بالعدوى .
Lana Shaheen


