اختصرت مجلة "تايم" الأميركية تقييمها ووصفها للوضع المصري الراهن من خلال غلافها الذي ستصدر به في الثاني والعشرين من تموز الجاري، حيث تم تقسيم الغلاف إلى شطرين متساويين في الطول، يشمل كل منهما مظاهرة حاشدة، كتب على أحدهما "أعظم المتظاهرين في العالم" وعلى الثاني "أسوأ ديمقراطيين في العالم، يفسر "كارل فيك" مدير مكتب المجلة في القدس المحتلة وصاحب قصة الغلاف التي أعدها من العاصمة المصرية الأمر بقوله إن الحشود المصرية باتت هي صاحبة القرار في سياسة بلادها، وهي التي تمكنت من الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، ثم تنحية المجلس العسكري الذي ورث الرئيس الأسبق، ثم لتطيح إثر حشود 30 حزيران الماضي بأول رئيس مصري منتخب بمساعدة من الجيش.
لا يعتبر هذا الغلاف وصفاً لما جرى في مصر فحسب، بل رؤية وربما تفسيراً للموقف الأميركي المتردد والمنقسم والمتناقض إزاء "المسألة المصرية الراهنة" إذ يحاول الغلاف وبسرعة الوقوف على أسباب غموض الموقف الأميركي الحائر إزاء تقييمه لما جرى ويجري إثر الثورة التصحيحية المصرية، بخلاف الموقف الأميركي في الأيام الأخيرة لنظام حسني مبارك عندما شجع على استمرار الثورة والإطاحة بالرئيس المصري بعد أن نصحته دون أن يصغى إلى ضرورة الانسحاب من المشهد تلبية لمطالب الثوار المعلنة.
أمسك الجيش المصري، من خلال المجلس العسكري للقوات المسلحة بمقاليد السلطة بعد أن تنحى مبارك، الذي قام بنفسه بتسليم السلطة له، وكان الأمر طبيعياً بالنظر إلى ضرورة عدم ترك البلاد ضحية فراغ السلطة، الموقف الأميركي في ذلك الوقت كان أكثر وضوحاً عندما اتخذ من ضرورة أن يقوم المجلس العسكري وبسرعة بتسليم السلطة إلى سلطة منتخبة، إلاّ أن الأمر لم يجر بسهولة، ولو رجعنا إلى الوراء لفهمنا لماذا ظلت مسألة الدستور أولاً أم الانتخابات الأكثر أهمية في ذلك الوقت، وربما كان لنا أن نفهم لماذا أصرت جماعة الإخوان المسلمين على أن تجري الانتخابات أولاً، تفسير الأمر بات واضحاً، ففي ظل الحراك الثوري، فإن أي دستور سيكتب، سيستوحي هذه الثورة وروادها وأبطالها، أما الانتخابات أولاً، فهي ستكون ممراً سهلاً للأحزاب والقوى الأكثر تنظيماً، وبالحصر يتمثل ذلك بجماعة الإخوان المسلمين، التي ستتمكن من كتابة دستور حسب مفاهيمها وأفكارها وأيديولوجيتها ومصالحها، وهذا ما حدث فعلاً.. إذ شكلت الجماعة هيئة تأسيسية على قياسها، ووضعت دستوراً حسب رؤيتها، ورأينا على الشاشة، كيف تم سلق الموافقة عليه في فجر أحد الأيام، ليعرض بسرعة على الاستفتاء الشعبي، في موازاة الإعلانات الدستورية الصادرة عن الرئاسة والتي تضع الرئيس في منزلة الإله من حيث حصانته وحصانة قراراته أياً كانت.
وفي ظل هذا السياق، هل يمكن القول إن نتائج صناديق الاقتراع، هي ذاتها تمثل الإرادة الشعبية، إزاء دستور تمت صياغته بطريقة غير دستورية وبالتوازي مع إعلانات دستورية غير ديمقراطية؟ هل الديمقراطية هي مجرد صناديق اقتراع؟! وعلى الأغلب فإن مواقف الجهة التشريعية في الولايات المتحدة ـ الكونغرس ـ والتي اعتبرت أن الحشد الهائل في "ميدان التحرير" يمثل أغلبية تصويتية خارج نطاق "الشكل الصندوقي" للانتخابات، خاصة وأن أهم مبدأ دستوري في هذا السياق، إن الشعب وحده مصدر السلطات، يمنح السلطة وينتزعها حسب إرادته، ما شوهد على نطاق عالمي غير مسبوق من حشد ثوري مصري يطالب بخلع مرسي، هو أحد أشكال التعبير الديمقراطي عن الإرادة الشعبية، وبرأينا أن هذا الشكل يعيدنا إلى الديمقراطية الأولى، ديمقراطية أثينا، ونظرية العقد الاجتماعي من جديد، ولكن وبطبيعة الحال بأسلوب جديد يتماشى مع تطور علم السياسة.
وإذا كانت المسألة المصرية الراهنة، عبرت عن انقسام في الشارع المصري، مع أغلبية ثورية وأقلية دينية، فإن هذا الانقسام الذي وصل إلى الولايات المتحدة بين مؤسسة الرئاسة والكونغرس، قد استدعى مثل هذا الغموض والتردد في الموقف الأميركي العام من المسألة، وزيارة نائب وزير الخارجية الأميركية وليام بيرنز إلى القاهرة هذه الأيام، ليس مجرد زيارة استكشافية، لكنها على الأغلب وسيلة لكي تنزل إدارة أوباما عن شجرة ترددها، ومع أن "جماعة رابعة" سيستغلون هذه الزيارة لحشد أكبر عدد ممكن، إلاّ أن ذلك باعتقادنا لن يكون كافياً للتأثير على الموقف الأميركي المرتقب.
مارتن انديك، السفير الأميركي، الشهير لدى إسرائيل سابقاً، كتب أوائل هذا الشهر في مجلة "فورين بوليسي" الفصلية الأميركية، أن واشنطن ستظل بحاجة إلى كل تعاون بينها وبين القوات المسلحة المصرية، وأن على أميركا أن تدعم التطور الديمقراطي وتقصير مدة الفترة الانتقالية في أكبر دولة وأهم جيش في المنطقة، وذلك رعاية للمصالح الأميركية وفي مقدمتها الحفاظ على اتفاق "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل وإنهاء "النزاع" العربي ـ الإسرائيلي وإبرام تحالف قوى معتدلة في المنطقة، تقوده أكبر دولة تأثيراً، عسكرياً وثقافياً في المنظومة العربية.
وإذ لم تجرؤ إدارة أوباما حتى الآن عن وصف ثورة 30 يونيو/حزيران بالانقلاب، فإن ذلك عائد على الأغلب، وحسب صحيفة "صانداي تايمز" البريطانية، إلى الطريقة التي تعامل بها الفريق السيسي مع اتصالات وزير الدفاع الأميركي هاغل، من موقع الند لا التابع، وهو ما يشير إلى أن واشنطن مضطرة إلى أن تتعايش مع وضع جديد، قد لا يكون ندياً تماماً، لكنه في الغالب، أقرب إلى ذلك، بالحرص على مصالح الجانبين المصري والأميركي وليس تبعية الأول للثاني!!


