صباح الخير يا مصر .. صباح نسمة نيلية افلتت في صبحك من احضان الموج في تيه ودلال ، وسرت الي تداعب وجهي برقتها المنعشة وهي تهمس ، بصبح عليك ، صباح البسطاء يتحركون في كل اتجاه بشوارعك وميادينك وعلى ضفاف نيلك ، ولكل ما سعى .
صباح الفول المدمس بالزيت الحار ، والطعمية والبصل وباقي "التحبيشة" والشيء لزوم الشيء على عربيات اليد ، والجبنة البيضا، والرومي والشاي ابو لبن ..
صباح الفل يا ست الكل .. صباح الورد بيفتح في جناين مصر .. سألت نفسي وانا احلق في ملكوت سحر النيل من مجلسي بشرفة غرفتي في الفندق في باكورة اول يوم لي في القاهرة برسم المهمة التي قد انتدبت لها .. ترى هل بقي التعريف الذي وضعته لطيفة التونسية للمصري حين غنت " تعرف تتكلم بلدي ، وتشم الورد البلدي ، وتعيش الحلم العصري ، يبقى انت اكيد المصري " قائما حتى يومنا هذا ؟ ..الا يزال المصري هو من يعرف يتكلم بلدي ، ام ان كلام السياسة والحزبية والفصائلية والتعصب باي شكل كان لا يعرف لغة بعينها للكلام ، وهل بقي المصري على عادته في شم الورد البلدي؟؟.. ام ان رائحة الدم والبارود والكراهية قد زكمت انفه فلم يعد يشم الا رائحة الموت وانعدام الامن ! اما الحلم العصري ، فالعوض في سلامتكم ..
سمعت طرقا على باب الغرفة ..
- ايوه
- الروم سيرفيس يا مدام
- تفضل
دخل رجل نوبي في اواخر الاربعينات من عمره يدفع امامه عربة عليها ابريق وفنجان وباقي مستلزمات الشراب المطلوب
- صباح الورد .. النسكافيه يا هانم
- صباح النور .. شكرا
قال وهو يصب النسكافيه ، حضرتك من غزة ، اجدع ناس وربنا .
- شكرا ده من ذوقك ، بس عرفت ازاي يعني
- من البيانات اللي في الريسبشن ، والله العظيم احنا بنحبكو اوي وبندعي ربنا ينصركو على الاسرائيليين الكفره دول .. وحضرتك بتشتغلي ايه ؟
الثرثرة زادت عن حدها ، كدت اقول له وانت مالك ، لكنه كان يبدو طيبا الى حد لا يشجع ابدا على نهره او زجره ، اجبت باقتضاب المتافف
- صحفيه ، اعلاميه
وكأنه قد وجد ضالته ، قال بحماس:
يا محاسن الصدف ، وربنا انتي بنت حلال ، انا ابني خريج صحافه واعلام بس لسه مش لاقي شغل ، فتحتله كشك صغير بيبع اي حاجه في الحاره بتاعتنا ، بس الحال واقف زي ماحضرتك عارفه ، لكن ابني بيعرف ناس كتير في الاعلام واذا احتجتي اي خدمه ، حضرتك بس اشري ، انا اسمي الحاج عبده.
- شكرا يا حاج عبده ربنا يخليلك ابنك.
ترى الا تزال كل مصر على حالها من بساطة وتلقائية محببة ، وهل لاتزال الناس العِشَرية تتبرع بتقديم خدماتها لكل من يعتقدون ولو مجرد اعتقاد انه بحاجة لها؟ .. ام ان الاحداث قد جرفتهم بعيدا ، وحشرتهم في بوتقة التنافس والتنازع والتصارع ..
المصريون الذين لم يعرفوا في يوم من الايام توصيفا لهم غير انهم مصريون وطنيون ، ولاد بلد جدعان ، او ولاد ذوات لا فرق ، تفرقوا الان شيعا واحزابا ، وجرت اعادة تعبئتهم وتغليفهم في عبوات يسهل على من يريد بمصر السوء ان يحركها كيفما يشاء ، ثورة ، فلول ، اسلام معتدل ، اسلام متشدد ، اسلام سياسي، قبطي ، ولا تنسوا العلمانيين ايضا .
الطريق الى مصر لم يكن بذلك القدر من الخطر الذي زرعته في قلبي وعقلي كل تلك التحذيرات التي تلقيتها من المتبرعين بالنصيحة والمشفقين علي بدافع الصداقة والود ، او بما توحي به الاخبار المتواترة من هنا وهناك .. لم يكن فيه ما يلفت الانتباه فيما عدا معاناة المعبر والتي قد اصبحت سمة مميزة له لا يكون ان لم تكن ، في كل العهود وفي ظل كل الانظمة ..
ساعات طويلة استغرقها مروري من المعبر الفلسطيني الى المعبر المصري ومن ثم فرحة الافراج عني ، ومن بعدها لا شيء الا السيارة والطريق وفي الغالب نيل قسط من الراحة والنوم .. ولا اخفي عليكم انني كنت قلقة الى حد الخوف في بداية الطريق ولم تكن عيناي تتوقفان عن مسح جانبيه تحسبا لاي خطر داهم من هنا او هناك .. لاحظ السائق في مرآة السيارة انني اجول ببصري يمينا ويسارا فقال وقد وجد مدخلا لحديث يهون عليه طول المسافة ..
- اطمأني يا استاذة ، الطريق امان ، ما في مشاكل خالص..
اجبته وانا احاول الاستقرار في مقعدي الخلفي وانصرف عن مراقبة الطريق - وكل الاخبار اللي بنسمعها مش صحيحة ؟.
رد السائق بلهجة العالم ببواطن الامور:
- صحيحه ونص ، بس مش هنا على الطريق الدولي ، المشاكل الكبيرة كلها جوه بعيد عن الطريق .. والله ما بيخلص يوم من غير قتل وضرب ، وخليها على الله ، بس هادا كله كوم وغلق الانفاق اربعه وعشرين ، شكلهم ناويين عليها هالمره بجد ، الله يكون في عون اهل غزة ، من وين بدهم يدبرو حالهم في الاكل والشرب .
لم ارد على السائق حتى لا يسترسل اكثر في حديثه من جهة ، وحتى لا يزيدني هما بالتفكير في غزة ومآسيها التي لا تنتهي .. و بمرور الوقت وتأكدي من ان كل شيء لايزال على حاله من استقرار وامن ، هدأ روعي واستكنت فخلدت الى نوم كنت بحاجة ماسة اليه .. وما هي الا ساعة او ساعتان وكانت السيارة تعبر قناة السويس الى حيث الامان بعيدا عن الحرب التي يشنها الجيش المصري في صحراء سيناء .. ما تبقى من الطريق الى مصر كان اعتياديا الى حد الروتينية المثيرة للضجر ، وكان النوم فيه خير من اليقظة ..
دق هاتف غرفتي وكان المتحدث من مكتب الفضائية التي اعمل بها في القاهرة ، سألني متى اريد السيارة التي ستقلني الى المكتب فاخبرته انني احتاج الى ساعة واحدة للاستعداد ..
لم يتوقف رادار عقلي عن التحرك في كل اتجاه وانا استعد لاول مواجهة لي مع ميدان التحرير .. كيف ساتعامل مع وضع اشعر بانني مسقطة عليه اسقاطا ، انا لست خبيرة بالشأن المصري الا بالقدر الذي يسمح به الاطلاع على الاخبار ومتابعة الاحداث ، ولا يزال ينقصني الكثير من المعرفة بدقائق الامور وتفاصيل الصورة على ارض الواقع في مصر .. قرأت الكثير وحشوت راسي بكل ما استطعت الوصول اليه من اخبار ومعلومات ، لكن ذلك كله لم يشعرني بالثقة المطلقة في انني ساكون على قدر ما يتطلبه الموقف وتحتمه التغطية الجيدة للاحداث من مكان اقف فيه لاول مرة ، وواقع حال لم اتعمق فيه من قبل ..
- الحمد لله على السلامه ، نورتي مصر ، شرفتينا يا مدام.
الترحيب على الطريقة المصرية بكل عفويتها من الزملاء والمسؤولين في مكتب القناة في القاهرة قد خفف عني توتر اللقاء الاول .. ولم يطل المكوث في المكتب
- بينا عالميدان .. جاهزة يامدام ؟
- مية مية
يتبع -


