كل هواجس الدنيا قد تجمعت في رأسي وكأنها بؤرة اعصار .. اسرتي الصغيرة تتحلق حولي في وجوم .. حقيبة امتعتي قد تمردت ولم اعد اعرف الاتجاه الصحيح لفتحها او اغلاقها .. الهاتف يدق باصرار طفل مدلل على لفت انتباه امه ، رسائل الجوال تتوالى كالاخبار على شريط التلفاز .. اخي الذي جاء لوداعي يناولني الهاتف.
- صار متصل مية مرة ، ردي عليه وخلصينا
انتزعت الهاتف من يده في ضجر وتبرم .. كل من حولي عيونهم شاخصة الي وهم يصغون لردودي المقتضبة .. ايوه ، صحيح ، كلا لست مجنونة واعرف جيدا خطورة الوضع ، ايضا اعرف ذلك ، الطريق الى مصر اكثر خطورة من التواجد بداخلها .. شكرا على اية حال ، خليها على الله .
قذفت الهاتف لأخي وعدت احاول التركيز في جمع حاجياتي اللازمة للسفر الى مصر .. كانت مفاجأة لي عندما ابلغتني قناة الميادين التي اعمل مراسلة ومديرة تحرير مكتبها في غزة بتكليفي بالتوجه الى القاهرة فورا للمشاركة في تغطية الاحداث هناك ..
لم تكن المفاجأة في التكليف ذاته بل في التوقيت .. كل انسان في هذه الدنيا يكون مرتبطا بالتزامات لا يستطيع التحلل منها فجأة ودون سابق انذار ، وعندما ينتزع منها على غير انتظار او ترتيب يشعر بالارتباك في كل شيء الى حد التيه .. انا صحفية واعرف ان المتاعب هي مهنتي وتوقع غير المتوقع حاضر دوما في اجندة اعمالي ، ولكن عندما تقع الواقعة تطفو على السطح حسابات اخرى ، ماذا افعل بكذا ، وكيف استطيع تأجيل كذا ، وماذا اقول لفلان ، وهل يمكن ان يعذرني علان ..
اخرجني من هذه الدوامة صوت اخي وقد بدأ يفقد هدوءه المصطنع
- يعني ما حسيتي انه معاه حق لما قال انك مجنونة ؟!
اجبته في عصبية ، كلا لم يكن معه حق وانا لست مجنونة ، هذه طبيعة عملي ولا يصح ان اتقاعس عن اداء واجبي ايا كانت الظروف.
- لكن الوضع خطير جدا هناك ، مش حتكون فسحة ولا حتى مهمة شاقة وبس .. المهمة يمكن ان تكلفك حياتك.
توقفت عن " فش خلقي " في حقيبة السفر ، نظرت الى اخي نظرة اصرار يعرفها جيدا عندما يكون الامر قد حسم بالنسبة لي ، قلت ، ومتى كان الوضع ليس خطيرا في المهمات الاخرى ، هل كانت تغطية عشرات نوبات القصف والاجتياح الاسرائيلي والعدوان بكافة اشكاله نزهة ؟! او حتى مجرد عمل شاق ؟ .. انا قد تم تكليفي بتغطية الاحداث في مصر وسافعل ذلك ، نقطة واول السطر.
ادرك اخي او هو في الحقيقة كان يدرك منذ البداية انه لا جدوى من كل هذا الحديث ومحاولة ترهيبي بما يحف بالمهمة من اخطار ، فهو يعرف انني لم اعتد الهرب او التهرب من مواجهة مقتضيات عملي ولا افزعني الموت لحظة واحدة وانا اغطي حروب اسرائيل، كما انه سمع باذنيه ردودي على عشرات المكالمات الهاتفية التي كرر اصحابها ذات المحاولة وانتهت بتمنياتهم لي بالسلامة ..
جلست وحدي بجوار حقيبة سفري التقط انفاسي .. شردت بفكري الى مصر .. اعترفت لنفسي انها ستكون مغامرة ولكن لابد منها .. تخيلت الطريق عبر صحراء سيناء على ضوء ما يرد من اخبار عن شبه انفلات امني هناك ، استرجعت في ذهني خبرا قرأته اليوم عن انتشار دبابات مصرية على الحدود مع غزة ، اجراء غير معتاد ومؤشر الى سخونة الوضع بالفعل ..
تذكرت حديث الصديق الذي قال انني مجنونة .. ابتسمت .. نسيت القلق وبدأت الهواجس تتبدد شيئا فشيئا .. غصت في اعماقي فاذهلتني رغبة دفينة كنت اخفيها تحت اكداس الالتزامات ومشاكل العمل ، رغبة في ان اكون هناك في القاهرة وسط تلك الحشود باعدادها التي فاقت كل التوقعات ، اتابع الاحداث عن كثب واكون في قلب المعمعة ولا اقف على حواشيها هنا في غزة ..
انا اعشق مصر وكم يحزنني ما يحدث هناك من تناحر بين الاخوة .. لم لا القي بنفسي بين من احب واشاركهم الضراء كما شاركتهم السراء من قبل؟؟ .. عشرات ملايين المصريين نزلوا الى الشوارع والميادين ، والاحداث تتلاحق بايقاع سريع والازمة تتفاقم ، وربما يعتقد البعض ان وجود مثلي بين كل هذه الملايين لن يضر ولا ينفع ، ولكني ارى ان تغطية الاحداث على مبدأ نقل الواقع كما هو ينفع وينفع بكل تاكيد ، فلا شيء افضل من ان تسود الحقيقة ويتوارى الزور والبهتان .
غمرتني سكينة لا يعترف بها عاقل .. انا متشوقة بالفعل لاداء مهمتي واتعجل وصولي الى القاهرة .. ما اعرفه جيدا هو اني احب مصر واتمنى ان اطمئن عليها وانا وسط جماهيرها .. هل انا مجنونة .. لا يهم ، او ليس كل مايحدث هناك جنون ؟!
الصباح رباح .. سابدأ الطريق الى مصر وليكن ما يكون...


